قمر تدمر .. من مآسي مدينتنا قبل الثورة السورية

سخرت من صديقي عندما فتح بعد الظهر كتاب القراءة و قال و هو يمد إصبعه السبابة : هذا الصبي و منذ الصباح يغسل وجهه ، كان يشير إلى صورة طفل في الكتاب .
نحن الآن في بداية العام الدراسي من الصف الأول الإبتدائي و الدرس عن النظافة .
سعدنا بالدفاتر و الأقلام و الكتب التي حصلنا عليها .
وعدونا بهدايا كثيرة إن نحن التزمنا بالدوام و الهدوء و لم نهرب من المدرسة ، وعدونا بهدايا أجمل في حال تفوقنا .
غادر صديقي المدرسة بعد سنوات قليلة ، لم يستطع اجتياز الصف الأول الابتدائي ، اكتشفت عندما كبرت أنه غير مكتمل عقليا و أنه يعاني من ضمور في الدماغ ، لم أدرك ذلك في حينه .
تابعت صعودي و تفوقي ، اجتزت الثانوية العامة ، وصلت إلى الجامعة .
صديقي الذي غادر مبكرا مقاعد الدراسة لقي عناية فائقة من أهله ، خاصة والده .
الأب أصر عندما كبر على تزويجه و قاتل كي يؤمن له مصدر دخل دائم ، وظفه في البلدية ، صار يسقي الحدائق .
يسير متبخترا ببدلته الزرقاء في حدائق المدينة ، رجل طويل القامة ، بنيته قوية ، خرطوم الماء لا يفارقة ، أصبح جزءا منه ، ينقله من شجرة إلى أخرى ، ينتعل جزمة مطاطية طويلة ملطخة دائما بالوحل ، يركض نحوي مثل طفل صغير عندما يراني ، يجتار أحواض الزهور و النباتات الإستوائية ، يمشي فوق العشب الطري ، يسلم علي بحرارة .
في الصيف و عندما يشتد الحر و يسكن كل شيء أراه نائما فوق المقاعد الخشبية ، يستظل شجرة كينا ضخمة واضعا يده تحت رأسه غارقا في سبات عميق ، أمر بجانبه ، أنظر إلى وجهه البريء مليا ثم أتركه و أتابع طريقي نحو البساتين .
أخبرني أنه صار يملك بيتا صغيرا ، دعاني إلى زيارته ، وعدته و لم أفعل .
بعد عدة سنوات رأيته يسير مع زوجته و بينهما طفل صغير في الرابعة من عمره قال لي و هو يضحك : هذا ابني ، انحنيت على الطفل ، أخذ من أبيه شعره الأشقر و لون عينيه الزرقاوين ، قبلته ، سألته عن اسمه ، طرحت عليه بعض الأسئلة ، الطفل شعلة من الحيوية و الذكاء .
السنوات مرت ، الطفل أصبح في الجامعة ، هذا ما قاله لي صديقي و أنا أسير بجانبه في الحديقة ، قال : سيصبح مهندسا ، سيصبح رئيسا للبلدية و أشار إلى مكاتب الإدارة هناك و راح يضحك ، تمنيت ذلك من كل قلبي .
بشرنا بالثورة التي تقتلع الظلم و الفساد ، الثورة التي تحمل الحرية و تكافؤ الفرص و حقوق الإنسان .
سرنا في الشوارع ، غنينا للوطن و الكرامة و العدالة و المساواة .
إصرارنا يكبر و إجرامهم يكبر و يكبر ، لن نتراجع .
أطلقوا النار علينا ، اعتقلونا ، مات المئات منا تحت التعذيب ، أصابهم الجنون ، عزيمتنا تكبر و جنونهم يكبر ، لم ينفع الرصاص في إسكاتنا .
جاءت الدبابات ، وقفنا أمامها بصدور مفتوحة و أرواح محلقة ، هزمناها .
الضربة الأولى من طائراتهم أصابت بيت صديقي ، بكيت عندما علمت أن المهندس الشاب قد مات .
عندما دخلت عليه كان يبكي مثل طفل ، يسيل لعابه من بين شدقيه و يحدق مذهولا في الفراغ ، لم ينظر إلي ، ثيابه ممزقه و شعره منفوش و كان يردد جملة واحدة فقط : بدي ابني .. هاتوا لي ابني .
قال لي شقيقه : لم يعد يعرف أحدا و هو بالكاد يتناول الطعام و الشراب .
عقله الطفل لا يعرف معنى الموت و لم يصدق ما حدث ، راح دماغه بعد ذلك يضمر أكثر فأكثر .
ماتت الأشجار في حدائق تدمر لأن صديقي لم يعد يسقيها .
علمت منذ أيام أن طائرة أخرى قتلته هو أيضا .
أيها القمر التدمري المنير ، ما زلت منذ أربعين سنة واقفا في مكانك تغسل وجهك .
ناصر محمد ناصر … 23/9/2016