تدمر ليست زنوبيا، وإن كانت قد حكمتها، أو أغنية لفيروز، وإن كانت قد غنّتها، وهي ليست أعمدة رخامية، ولقى أثرية. إنها هبة التاريخ، ومدوّنته التي خرجت على كل الأمبراطوريات، قبل أن يعرف الخوارج طريقهم إلى اللغة العربية.

تدمر ليست اسماً يطويه النسيان، أو لغة ترفل في رطانة العرب العاربة أو المستعربة.
تدمر ليست بابلية أو أخمينية أو سلوقية أو رومانية أو عربية . هي هذه كلها. لو أنكم تعرفون معنى خلاصة التاريخ، كنتم قد عرفتم ما معنى أن تكون هذه كلها!
تدمر ليست عجوزاً يجلس في ظله، أو طفلة لا تعرف الفرق بين القاتل وبائع الحلوى. إنها امرأة شاهقة، ولكم أنتم بحاجة إلى العلو، لكي تطالوا أنوثتها!
تدمر هي تلك الثروة المؤجلة. ليست خطاً ترسمونه، وتقفزون من فوقه. تدمر لا يمكن القفز فوقها، فضاؤها أوسع من إدراككم.
تدمر ليست ذلك السجن الذي حملها اسماً. ها قد أثقلت كاهله فسقط، وسقطت زبانيته، وجلاوزته معه، وتدمر باقية.
تدمر ليست أرضاً أو سماء. إنها طريقكم إلى الوجود. إنها أحد الشهود الذين أقسموا على البقاء أحياء، فلا تقتلوها أيها الحثالة.

تدمر كانت قبل أن يتعثر لسان التاريخ بأسماء طوائفكم، ويعبر الظلم فوق صراط البلاد. وقبل أن تنكمش ألف سوريا، وتلم نفسها بتاء مربوطة.
تدمر هي المتن أينما كتبتموها، وكيفما كتبتموها، وأنتم الهامش، هامش النص، وهامش التاريخ، وهامش الحضارة. يمكنكم أن تنقلوا منها اللقى الأثرية، أن تتاجروا بها، أن تهدموا معابدها، وأعمدتها، وشواهدها، إلا أنكم لا يمكنكم أن تقتلوا روحها، فقد مرّ عليها البابليون والأخمينيون والسلوقيون والرومان والفرس والغسانيون والبيزنطيون والأمويون والعباسيون والبوريون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، وبقيت سيدة البادية السورية.
تدمر الآن هادئة كخريف من دون شجر، تفوح منها رائحة ظلال تحترق، تلمّ نفسها كخاتم يبحث عن أصابع زنوبيا، وتراقب إلى أي درك همجي يمكنكم أن تصلوا.
لا يغرنّكم ما تطلقه فوّهات الفتاوى والمؤتمرات، أو تلك المتون المثقلة بعلامات الترقيم تعجباً واستفهاماً.
ففي تدمر “نجوس أقمار الذين تبعثروا فينا”، وفيها يمكننا العثور على مفاتيح أحلامنا الإنسانية، فهي أنفاس متلاحقة لحياة في حيز الخلود.