يعتمد تقسيم البادية السورية إلى منطقتي الحماد والفيضات وتوابعها إلى أسس جغرافية طبيعية وجيولوجية. ففي وسط الإقليم يقوم جرف جيومورفولوجي ارتفاعه بين 30ـ60 متر وطوله أكثر من 80 كم بدور الحد الفاصل بين المنطقتين. فإلى الجنوب والغرب من هذا الجرف الذي يعرف بأسماء مختلفة مثل طرق العلب وفروع تارات العلب وظهر حمرة الزقف، تمتد هضبة الحماد، وإلى الشرق والشمال منه تنبسط الفيضات وتوابعها. ومنطقة الحماد أعلى من الفيضات، ويقع مستواها العام بحدود 600 متر فوق سطح البحر،وتؤلف هضبة واطئة مترامية الأطراف تمتد من جنوب حوض تدمر إلى حدود صحراء النفوذ، أرضها منبسطة ذات انحدارات ضعيفة جداً، مستوية تماماً في بقاع، ومتموجة مع فروق ارتفاعات ضئيلة في بقاع أخرى، تتفق في سطحها الطبوغرافي هذا مع ميول طبقات الصخور العائدة للباليوجين من الحقب الجيولوجي الثالث التي يندر أن تزيد ميولها على /5ـ7/ درجات، مما يظهر أثر البنية الجيولوجية في تضاريس الحماد. والحماد غني بالخبرات والأحواض الصغيرة المغلقة، حتى عُرف وسطه بأرض الخباري. وفي المنطقة عدد من الأودية السيلية القادمة من الأطراف العالية، جميعها عديمة التصريف إلى البحار، وتنتهي إلى إحدى الخبرات أو المنخفضات المغلقة الأخرى. ولا تؤلف هذه الأدوية أية عقبات تضريسية ولا تعيق حركة الإنسان والرواحل لأن جوانبها لطيفة الانحدار وتنعدم في معظم أجزاء أكثر الأودية العريضة لدرجة لا يستطيع المرء معها تمييز أرض الوادي من جوانبه إلا عن طريق اختلاف ألوان توضعات الوادي الفاتحة والنباتات المسايرة لتعرجاته، في حين تغطي الأراضي الفاصلة بين الأودية مساحات شبه خالية من النباتات ينتشر عليها غطاء من الحجارة الحادة الزوايا من الصوان أو الحجر الكلسي، هي التي دعت إلى تسميتها بالحماد أي الصحراء الحجرية.
تنتهي منطقة الحماد في الغرب بحاجز تضريسي يفصلها عن حوض دمشق، مؤلف من هضبة بركانية اندفاعية تعلوها البراكين تعرف بديرة التلول. وهي بقعة وعرة جداً جرداء قاحلة مياهها نادرة فقيرة بالآبار. وتقترب الأغشية البركانية السوداء من الجبال التدمرية شمالها حتى تكاد تلتحم بها عند مفازة أبي الشامات.
ب ـ منطقة الفيضات:
تتميز هذه المنطقة الواقعة شرق وشمال شرق الحماد بانخفاضها العام إذ يقع ارتفاعها المتوسط بحدود 200ـ300 متر فوق سطح البحر. وبأنها غنية بالأودية وبالفيضات وهي منخفضات واسعة قليلة العمق تفيض على أرضها السيول ومنها أخذت اسمها. ويغلب على سطح المنطقة الانبساط والاستواء بصورة عامة مع انحدار يبدأ من أقدام الجرف الصخري وباتجاه الشرق إلى وادي الفرات، ومع ذلك فإن سطح الفيضات أكثر تخدداً من سطح الحماد لكثرة الأودية السيلية التي تقطعه وتتعمق فيه أكثر من /50/ متراً في المجاري العليا والوسطى وبحدود /20ـ30/ متراً أو دون ذلك في المجاري الدنيا، وهي أطول، وتقسم منطقة الفيضات إلى أراض (الفيضات) نفسها، وتقع في الشمال بين جبل البشري ووادي الفرات وجرف طرق العلب وتارات العلب. وإلى أرض (الوديان) التي تتممها من ناحية الجنوب ومعظمها في الأراضي العراقية حالياً. ودعيت بالوديان لكثرة شبكات الأودية الجافة التي تجتازها، نذكر منها أودية عامج (أو عمج) ووادي حوران وهو أكبرها وأطولها (445 كم تقريباً)، وكلاهما في العراق، ثم وادي الرتقة ورافده عكاشة فوادي الصواب ورافده الوعر ثم وادي المياه فوادي الخويمة ووادي الصرايم فوادي المربعة. تليها في الشمال أودية الغضبان والهيل والضباعية وغيرها. وتعد الأودية الواقعة شمال وادي الرتقة ـ عكاشة من معالم أرض الفيضات وتنتهي أودية هذه المنطقة إلى الفرات بعد رسمها انحناءات محدبة نحو الشمال في أرض الفيضات، وجوانب الأودية قاسية في معظم القطاعات وذات قيعان منبسطة عريضة تتراوح بين /500ـ1000 متر/ وسطياً. والكثير منها كوادي الصواب والمياه والمربعة وافرة المرعى غنية بالمياه الجوفية القريبة من السطح، تكثر فيها الآبار والحسيان. وجدير بالذكر أن وقوع منطقة الفيضات والوديان في مستوى أدنى من مستوى منطقة الحماد، جعلها تستقبل السيول الهابطة من أطراف حافة الحماد المشرفة بالجرف الصخري المذكور على الفيضات والوديان، تلك السيول التي تتدفق في الأدوية عقب هطول الأمطار وتخلف وراءها حفراً تتجمع فيها المياه تعرف بالغدران أو الروضات. وتؤلف مع المنخفضات الفيضية مصادر مؤقتة للمياه السطحية. ومن الفيضات الهامة قباقب والجب وابن موينع والمالحة والمربعة وغيرها.
حوض تدمر:
منخفض واسع يقع في مكان متوسط على طريق الحرير بين بلاد الرافدين والبحر المتوسط الشرقي، عند أقدام الجبال التدمرية ونهايتها الشمالية الشرقية والتحامها بالجبال الوسطى. وهو حوض عديم التصريف يقع دون مستوى /400 متر/ فوق سطح البحر، تشغل أخفض أجزائه سبخة الموح ومملحتها الواقعة على ارتفاع /375 متر/ فوق سطح البحر. وإلى الشمال من السبخة قامت مدينة تدمر. والحوض منخفض بنائي تكوّن في النيوجين والحقب الرابع الجيولوجي نتيجة حركات صدعية تضافرت مع الأعمال الجيومورفولوجية المتأخرة لرسم صورة الحوض. إذ امتلأ بالرسوبيات البحيرية الرباعية في بحيرة تدمر القديمة التي زالت ولم يبق من آثارها سوى سبخة الموح والرسوبيات المذكورة.
إن حوض تدمر يؤلف نواة البادية التدمرية وقطبها، ويمتد تأثيره خارج حدود الحوض المغلق إلى مسافات بعيدة جنوباً حتى أقدم جروف طرَق العلب وفروع تارات العلب، وشرقاً حتى أرض الفيضات. أما شمالاً وغرباً فتقف الجبال حائلاً بين البادية التدمرية وما وراء الجبال، إلا عبر الممرات والمفاوز الجبلية، كما هو الحال في ممر ثنية الملح ومفازة الدَّو غرب تدمر، ووادي قصر الحلابات في الجنوب الغربي، ووادي الأبيض والرهاوي في الشمال ومفازة الطيبةـ الكوم في الشمال الشرقي. أما شرقاً فالأرض مفتوحة ولا عقبات تعيق الحركة والانتقال عليها باتجاه وادي الفرات.
إن العرض الموجز للأوضاع الطبيعية لأرض البادية وسطحها في الفقرات السابقة يؤكد على أن البادية مجال مفتوح وذات أرض صالحة للسير عليها في أكثر أرجائها، وبالتالي يتم عبورها على طرق من النموذج الحر غير المقيد أو الإلزامي، خلا مواقع محددة جداً، كاختيار منفذ في واد حافاته ذات جروف قاسية، أو الابتعاد عن أرض تربتها (هَيام) أي طرية أو رملية أو سبخية أو تفادي أرض صخرية وعرة.
إن نموذج الطرق الحرة هذا يسمح للإنسان باختيار الطريق القصيرة والسهلة والمريحة التي تمر على مواقع المياه والمراعي بالنسبة للقوافل التجارية القديمة. وهذا يدعونا للتعرف على عنصري الماء والنبيت (النبات الطبيعي) في البادية.
2ـ مياه البادية ونبيتُها:
يراوح عدد ساعات سطوع الشمس السنوية في البادية السورية عامة بين /3400ـ3700/ ساعة وأمطارها السنوية الحالية بين /70ـ130 مم/ وبالتالي فإن الحرارات عالية والتبخر مرتفع جداً. إن هذه الأوضاع المناخية ذات الطابع شبه الصحراوي حتى الصحراوي السائدة حالياً، لم تتغير كثيراً منذ بضعة آلاف من السنين، ولكنها كانت أكثر إيجابية بنسبة محدودة تراوح بين /25ـ50%/ بالقياس إلى الأوضاع الحالية. والنتيجة الطبيعية لهذه الأوضاع انعدام الجريان السطحي المائي في البادية إلا من السيول المؤقتة التي تجري في الأودية الجافة إثر هطول أمطار كافية. لذا اعتمد الإنسان على تأمين المياه من مصادر جوفية دائمة نسبياً، وعلى مياه سطحية مؤقتة. وتكثر المياه السطحية في حفر قيعان الأودية على شكل غدران أو روضات أو في نهاياتها على هيئة فيضات أو خبرات، لكن عمر هذه المياه المطرية السيلية العذبة قصير، ويغور قسم منها في الصخور والتربة، وقسم يتبخر فلا يبقى منها سوى القليل في الشتاء والربيع.
أما المياه الجوفية فهي وإن كانت قليلة كماً ومسوسة نوعاً، تبقى مياهاً دائمة يوصل إليها عن طريق الآبار العميقة نسبياً (وتسمى الخرايج) وهي غزيرة المياه في الغالب، أو الحسيان القليلة العمق المحدودة الغزارة. ومياهها إما أن تكون (قراح) أو (ملاح) أو (مجة) أي عذبة أو مالحة أو مرة المذاق. والآبار في الفيضات والوديان والبادية التدمرية أكثر عدداً وأقل عمقاً من آبار الحماد، أغلبها في الأودية الكبرى كوادي حوران والصواب والمياه. كذلك ابتدع الإنسان القنوات الضمنية في نطاق التقاء الجبال بالبادية للحصول على المياه، كما في الطيبة والسخنة وتدمر وغيرها، كما أنشأ البرك وصهاريج جمع مياه الأمطار والسيول في الأودية أو قريباً منها، تشاهد أطلالها وبقاياها في جنوبي الفيضات وعلى جوانب الطرق الرئيسية القديمة. بعضها لازال مستعملاً حتى اليوم كبركة الطيار على طريق تدمر ـ دمشق. وجدير بالذكر أن غالبية هذه المنشآت المائية قديمة وترجع إلى العهدين الروماني والتدمري، أو أقدم منهما.
أما نبيت البادية فلقد تأثر بالأوضاع المناخية السابقة، وبخاصة كميات الأمطار الأعلى ومقادير التبخر الأدنى نسبياً ـ إذ سادت تكوينات نباتية أكثر كثافة وتنوعاً تتألف من جنبات قزمة مختلطة الأنواع تأتلف مع الظروف شبه الجافة والجافة، تتداخل مع غطاء من الأعشاب الغنية، الفقيرة بالأشجار. ولقد قدرت كثافة التغطية النباتية لسطح البادية بنحو 10ـ40% من المساحة العامة قبل نحو 8000 سنة مضت (TAVO: آ ـ 5 ـ 12/1990) مع ارتفاع هذه الكثافة على امتداد مجاري الأودية. وهذا يعني توافر مرعى مناسب لدواب القوافل التجارية العابرة للبادية السورية ولمنتجعي أرجائها، مما جعل عنصر النبات الطبيعي من عناصر البيئة الجغرافية الطبيعية الإيجابية على امتداد طريق الحرير في البادية السورية.
عادل عبد السلام – الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996