للوهلة الأولى، تلتقط الصور الاستثنائية التي تعود إلى القرن التاسع عشر للفرنسي لويس فينيس أطلال مدينة تدمر كمدينة يونانية رومانية، مع صور مفصلة للمعابد الباقية وواجهاتها ذات الأعمدة وممرها الثلاثي الكبير الذي يبرز شارع الأعمدة .
ومع ذلك، عند إمعان النظر، يتضح لنا المزيج الثقافي السلس الذي يميّز كل جانب من جوانب المدينة. هذا وقد خُصص الحرم الرئيسي في تدمر، المحاط بفناء ضخم يمكنه استيعاب جميع سكان المدينة، للإله بل، وهو لقب من بلاد وادي الرافدين مرتبط بكبير الآلهة البابلية مردوخ. ووفقًا للتلمود البابلي، يبدو أن عبادة بل بقيت في بابل حتى أواخر العصر البارثي، بالتزامن مع تعظيم الإله في تدمر

معهد بحوث جيتي
يتجلى عمق التفاعل الثقافي وتعقيده في تدمر في تفاصيل تصميم معبد بل الكبير وبنيته: إذ بُنيت حارته ، بتمويل جزئي من التجار التدمريين من بابل؛ وأُعلنَ مكانًا مقدسًا في عام 32 ميلاديًا في شهر أبريل – نيسان، متوافقاً مع رأس السنة البابلية؛ وتعكس عمارته الخارجية -التي تُبرز واجهة كلاسيكية- ابتكارات القرن الثاني قبل الميلاد العائدة الى المهندس المعماري الهلنستي الشهير هيرموجينيس، إلى جانب تفاصيل تعود إلى الشرق الأدنى مثل الشرفات ذات المثلثات المتدرجة (الشكل 3)؛ بالإضافة إلى تصميمٍ داخلي يتوافق مع طقوس الشرق الأدنى، ومع ذلك تجده مزودًا بسقوف فلكية بعيدة عن صور الأبراج الفلكية البابلية؛ وإفريز معماري يصور بل وهو يقاتل الإلهة البدائية تيامات، كما ورد في أسطورة الخلق البابلية

معهد بحوث جيتي
ويجمع معبد بعل شمين الأصغر بين واجهة كلاسيكية و نوافذ تضيء الجزء الداخلي المُزين بمنحوتة الاله بعل شمين، بعل هو اله الطقس المحلي السوري-الفينيقي ، يجلس تحت الرموز الكونية.
هذا وتقدم مجموعة الآلهة المعبودة -والتي غالبًا ما يتم التوفيق بينها بطقوس وأدوات مستمدة من تقاليد الشرق الأدنى والتقاليد اليونانية-الرومانية دليلًا على مزيجٍ من المؤثرات التي تخللت جميع جوانب الحياة في مدينة تدمر. كما توفر صور الآلاف من مواطنيها الصفوة -المصورة على المنحوتات الجنائزية والتوابيت في المقابر الرائعة- لمحة عن جوانب أخرى من الهوية الاجتماعية، بما في ذلك الوحدات العائلية والمهن والأدوار التي كان يقوم بها الجنسان. ومن بينها صور عديدة لسيدات مزينات بالجواهر وتسريحات شعر متقنة ومغطاة بملابس على الطراز الغربي، ورؤساء أسر متكئين يرتدون رداءً رومانيًا طويلًا وسراويل إيرانية مطرزة، وكهنة يرتدون قبعات عالية مميزة.

متحف اللوفر (آثار شرقية AO ١٩٨٠١).
اتحاد المتاحف الوطنية والقصر الكبير (متحف اللوفر) / هيرفيه لواندوسكي
وعلى الرغم من أن النحاتين قاموا في بعض الأحيان بتضمين إيماءات ومخططات تركيبية غربية ، إلا إن المنظر الأمامي والرسومات النمطية والشامخة إلى حد ما لهذه الأشكال تمثل نهجًا ذا طابع شرقي. وهكذا يقدم فن تدمر تناقضًا صارخًا مع النمط الطبيعي للمنحوتات اليونانية – الرومانية، وأحد نماذج هذه التناقضات هو تمثال أثينا العملاقة من معبد اللات، والذي ي شترك في بعض سمات آلهة الشرق الأدنى. ونجا هذا التمثال من الأضرار التي وقعت خلال الاستيطان المسيحي المبكر الذي كان يهدف لمحو الماضي الوثني، إلا إنه قُطّع مؤخرًا إلى أجزاء على أيادي متعصبي تنظيم داعش
