في الذكرى الثالثة لها..أحد الناجين من معركة المطاحن بحمص يروي أحداث جديدة عن المعركة

ملحمة و أسطورة معركة المطاحن والتي جرت أحداثها في أحياء مدينة حمص المحاصرة بتاريخ 8-1-2014 

 

هذه العملية كانت جزءاً من عملية معقدة تهدف لفك الحصار عن حمص بعد سنة ونصف من المعاناة التي تنوء بحملها الجبال، وبعد أكثرمن 10 محاولات فاشلة لفك هذا الحصار.. كان هناك قسم من قوات النظام في منطقة التأمينات الاجتماعية الذي يضم إضافة إلى مركز المخابرات الجوية المطاحن الجديدة، وأنتم تعرفون أن أهالي حمص يعيشون حالة مزرية من الجوع تحت الحصار منذ شهور طويلة، وكان الهدف الحصول على كمية كافية من الطحين تنقذ أهالي المدينة حتى يأذن الله بفك الحصار، وما جرى أن الشبان الثوار استطاعوا التسلل إلى المنطقة المحيطة بالمطاحن بنجاح في بداية العملية.
كان الدخول إلى المنطقة من خلال نفق تم حفره خلال شهرين وتسلل عدد من الثوار يقدر بـ100 ثائر حوالي الساعة الثالثة فجراً واستمرت المعركة حتى السادسة والنصف تقريباً، وخلال هذه الفترة استطاعوا السيطرة على المكان دون اشتباكات مع الجيش في البداية، وكان النفق ضيقاً بحيث لم يسمح بدخول أعداد كافية إلى المنطقة التي شهدت المعركة فكان الدخول بشكل فردي ومع ذلك استطاع الشبان المتسللون السيطرة على المنطقة، وانتشروا على مساحة 90 % من منطقة المطاحن والقيادة والكتيبة، وكان تسلّلهم إليها دون أن يحس بهم الجيش، لكن للأسف كان هناك جندي يمر بالصدفة من مكان تواجد الثوار فرأوه وأحس هو بهم ولكن لم يستطيعوا التعامل معه لكي لا يثيروا انتباه الجيش، فقام هو بإطلاق النار على عدد من الثوار، وقام أحدهم بقتله فأثار صوت الرصاص انتباه الجيش وانقلبت العملية من تسلل لاقتحام، والاقتحام عادة يحتاج إلى أعداد كافية من الثوار، وتنبه الجيش لمكان الفتحة التي كان يخرج منها الثوار فاستطاع السيطرة عليها من خلال قصفها بقذائف دباباته ورشاشاته فلم يعد أحد من الثوار يستطيع الدخول أو الخروج منها ،وكان عدد الثوار خارج النفق حوالي 100 مجاهد استطاع 40 منهم التراجع والانسحاب وبقية الثوار لم يستطيعوا التراجع بسبب قذائف دبابة أصابت حوالي 12 شاباً منهم، وانشغل بعض الثوار بإسعاف الجرحى فتحاصروا معهم.
شباب يافع لم يتجاوز العشرين من العمر، لكن الهمم كانت بألف رجل بدون مبالغة…
نزلوا الأنفاق يومياً تحت الأرض وساروا ساعات من الزمن في ممرات لا يتجاوز ارتفاعها ٩٠ سنتمتر أو أقل حتى يصلوا لمكان العمل ..
العمل عبارة عن خفر لأنفاق يتجاوز طولها ال٥٠ متراً و ارتفاعها ٨٠ سنتمر، يتبادلون العمل بين حفر ونقل لأكياس التراب التي تأتي من الحفر ..

 

كان قد اشتد الجوع علينا وضاقت الأرض بما رحبت، فبدأ التخطيط من أجل عمل لفك الحصار عن أحياء حمص المحاصرة.
بدأ الشباب بحفر النفق من أجل معركة ضد الجيش وكانت الوجهة إلى حي مساكن المعلمين الذي يملك المكان الإستراتيجي من أجل فك الحصار، كان العمل في حفر النفق جاري بشكل جيد وكانت الفرحة تملئ وجوهنا وكنا نتسابق من أجل العمل وكان العمل شاق جداً، شارفنا على الانتهاء من الحفر، دخلت مع “أبو حمزة الفاتح” و “عبد الله الساروت” عدة مرات من أجل الرصد وتجهيز الإتصال.
أتى اليوم الذي قررت فيه المعركة..
بدأ الاجتماع قبل بدء المعركة بساعات وقام قادة المجموعات بتوزيع المهام، توجه الشباب الى حي القصور، كان الجو بارد جداً وكانت المسافة بعيدة..
سبحان الله لأول مرة يملأ الخوف قلبي من معركة، خرجت من المنزل وأنا أردد أنشودة الشهيد وكأني أحسست أنها النهاية..
وصلت إلى غرفة العمليات وكان الشباب لم ينطلقوا بعد وكانت وجوههم يملأها الفرح وقد تجهزوا من أجل العمل ووضعوا في أقدامهم أكياس النايلون من أجل المياه الموجودة في أنابيب الصرف الصحي.
وعند فتحة النفق كان هناك من يوزع التمر ..
دخلنا النفق وكان مظلم جداً وتسوده الرطوبة، وكانت المياه باردة ونتنة ومن كثرة الزحام لم يعد يوجد أوكسجين، وهنا ضاق النفس وألم الظهر والقدمين كبير لكثرة الانحناء والمشي، كانت المسافة طويلة بما تقارب 800 – 1000 متر، وصلنا أخيراً نهاية النفق بعد عناء شديد ..

 

 

عبد الباسط الساروت هو أمير المحور وكان الإتفاق أن تخرج الدفعة الأولى من محور القصور وبالتزامن معها أو بعدها بقليل نخرج نحن من أجل الأمان، وقد انقطع الإتصال بيننا وبين المحور الآخر.
عدت أدراجي باتجاه المحور الأول وهو محور حي القصور وقال لي قائد المحور أن التسلل فشل وعليكم الإنسحاب، فعدت مسرعاً .. لكن لا جدوى، فعندما وصلت الى نهاية النفق لم أجد سوى عبد الباسط أمير المحور والشباب قد خرجوا من الفتحة دون تلقي الأمر ببدء الخروج ..
فقلت له: يا أخي المحور الآخر فشل في التسلل وعلينا الإنسحاب ..
وما كان أمامي إلا أن أخرج من النفق كي أخبر الشباب بأن ينسحبوا ..
صادفت أحد قادة المجموعات، فأخبرته بأمر الإنسحاب وكان قد توغل بعض الشباب في الكتل وكانت الخطة بأن لا يضرب أحد الرصاص إلا في الكواتم فقام أحد الشباب بإطلاق النار على مجموعة من الشبيحة من دون كاتم ..
تنبه الجيش لخطر قادم، وإلى هذه اللحظة لم يعرف الشبيحة من أين خرجنا، هنا أصرّ بعض الشباب على الإنسحاب من دون البقية وكانت الساعة حوالي السابعة صباحاً ولم ينتظروا اخوانهم وبدأوا بالإنسحاب باتجاه فتحة النفق، ورصد الجيش مكان الفتحة ووضع القناصات وأصبحنا نسمع صوت العربات المجنزرة تتحرك فوقنا ..
أيقنا بأنه لاعودة لنا بعد الآن وبدأت علامات الخوف والرعب والهلع في قلوبنا.
ماذا نفعل ؟؟ وكل منا يأتي بفكرة لكن فات الأوان لا مفر
أتت المجنزرة إلى فتحة النفق مسرعة وبدأت الرمي علينا…
انتشر الجميع لكن بدون تنظيم فقال أحدهم: لازم نبلش حفر خندق الى الفتحة من أجل العودة ومجموعة أخرى تشغل الجيش .. وكان ذلك .
اقترب أحد الأبطال من باب المخزن من أجل الحفر لكنه أصيب واشتدّ الاشتباك مع الجيش، أصبت بعدها مباشرةً
قال أحدهم …
( خلينا نموت هون بعزتنا وكرامتنا ونقاتل الجيش أحسن ما نرجع على الحصار وفي مين عم يستنانا أطفال ونسوان ونحن ما حسنّا نعمل شي منشانن، مابدنا نرجع مكسورين الموت أحسن النا ) وكانت الدموع تذرف من عيناه ليسجل التاريخ اسم هذا البطل انه “أبو عمار المكحل” …
معركة المطاحن بحمص
معركة المطاحن بحمص
معركة المطاحن بحمص
معركة المطاحن بحمص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بدأ الجيش بتطويق المكان والرمي بالأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع ورشاشات، كثرت الإصابات ولم يكن يتوفر لدينا مواد أسعافية كافية بسبب المياه التي عطلت أغلب المواد والمعدات الطبية.
يا جماعة تصاوب فلان وين المسعفين، المسعف موجود لكن لا يستطيع إلا البكاء، يا جماعة تصاوب فلان، أحضروه إلى هنا المكان آمن من القصف.
وقد جمعونا في شقة واحدة وكان البرد شديد والألم أكثر منه ولا طعام ولا شراب وملابسنا اختلط فيها الدم مع المياه وبدأنا نرتجف من البرد، المكان خالي من كل شيء لايوجد فيه حرام أو معطف ولا حتى أبواب أو نوافذ، إلتحفنا الأرض وكل فترة وأخرى يصاب أحد الشباب، المقاومة شديدة لكن العين لا تقاوم المخرز. يوجد شباب أصيبت لكنها لم تستسلم وقاومت حتى النهاية.
يا شباب فلان استشهد ………الخ، حتى قتل الجميع، إلا انا وأحد الشباب..حسبي الله ونعم الوكيل.
سبحان الله لم أصدق مايجري حولي وكأني في حلم.
اقترب الجيش منا كثيراً حتى بقي بيننا وبينهم حائط واحد 10سم، الرعب يأكلني.
يالله إني مصاب ولا أستطيع الحركة ماذا أفعل ؟؟؟
حتى أن الشبيحة سمعوا صوت أنيني أنا وأبو علي أحرار ..
اقتربوا اكثر وأصبحنا نشاهد أقدامهم .. وهنا كانت بداية قصة العذاب والاعتقال.
أصبت بصدري، ركضت مسرعاً فوجدت أبو عمر “أحمد النجار” المسعف، وما هي الا دقائق وسقطت على الأرض، كشف على صدري وقال لي اصبر اصابتك ليست شديدة ضمني وراح يبكي.
اشتد الألم والبرد والنزيف وفقدت الوعي، صحوت بعد فترة و اذ بأخي وحبيبي أبو تيسير يجلس بجانبي وأخذ يمازحني وكل فترة يأتي ويطمئن علي، غبت عن الوعي ففتحت عيني ولم أجده بجانبي، ناديت بصوتي المبحوح أين أبو تيسير؟ رد أحدهم أبو تيسير متصاوب، سمعت صوت أبو راكان القناص قلت له تعال إلى هنا، قال لي أني مصاب ولا اقدر على الحركة، وهو يكلمني سمعت صوت الدبابة وقد ألقت بقذيفة، فصرخ أبو راكان ولم أسمع صوته بعدها.
وعندما بدأ الاشتباك، أخذ كل منا مكان بشكل عشوائي و بدأنا نسمع صوت الآليات من كل الجهات، وبدأ الشبيحة بتمشيط الكتل والمباني، كان الشباب أسود بكل معنى الكلمة لا أحد يهرب أو يبتعد حتى يصاب إصابة بليغة أو يقتل.
يصاب أحدهم فيأتي به اخوانه الى البناء الذي كنت فيه انا بحيث انه كان قريب من فتحة النفق، وبعد ساعات نجح ثلاثة أخوة بالفرار.
حملني أبو عمر أحمد النجار على كتفيه وقال لي سوف أركض بك ورائهم لعل الله أن ينجينا.
ركض أحد الشباب، اسمه “أبو عادل” .. فأرداه القناص قتيلاً، قال أبو عمر: سوف نركض، قلت له دعني واذهب وانج بحياتك لأن المسافة حوالي 25 متر وهي وعرة، لم يرضى وقال لي لن أتركك أتينا معاً ونرجع معاً
وضعني أبو عمر في الحمام وأخذ سلاحه وذهب ولم يعد، يا شباب وين أبو عمر ! نظر المسعف “أبو بكر ” بعيني وبكى، قلت له أبو عمر استشهد ؟؟ لم يرد إلا بالبكاء
وضع يديه على الباب وأخذ يواسيني، ما كانت إلا لحظات و وقع فوقي، نظرت إليه و اذ برصاصة ضربت رأسه وخرجت روحه ورأسه على بطني.. يالله ماذا يحدث !!
وهنا أطبق الحصار على الكتلة تماماً .. الدبابة ترمي والمدافع ترمي والقناص يرمي

اقترب صوت الشبيحة مني ومن صديقي أبو علي وأبو عدي أحرار كثيراً، نظرت من إحدى الفتحات في الحائط الذي فتحتها غزارة الرصاص فرأيت أقدام الشبيحة تتجه نحونا ونحن لم ننطق بصوت واحد
أبو علي مصاب بركبته وأنا مصاب في صدري وأبو عدي مصاب في فخذه وكتفه
قلت لأبو عدي ماذا نفعل، قال لي لا أعلم
لم نعد قادرين على الحركة، سمع الشبيحة أصواتنا وأخذوا يصرخون قبل أن يرونا ويقولون لنا سلموا أنفسكم.
أبو عدي ماذا نفعل؟ قال ليس أمامنا حل آخر وطلب مني أن أتكلم معهم.
تحدثت مع الشبيحة قالو لي سلموا أنفسكم مقابل الأمان فقلت لهم سوف نخرج.
الشبيحة في المطبخ ونحن في الحمام يفصل بيننا وبينهم حائط لا أكثر، قالوا لي اخرج عاري الصدر.
كنت متكئ على الحائط، مددت يدي لهم وسحبوني منها، وخرج بعدي أحمد أبوعلي.
بقي أبو عدي في الحمام .. سألوا أحمد من بقي في الداخل؟ قال لهم قائد مجموعتنا.
فأمسك أحدهم الرشاش ورمى على من خلف الجدار وسمع صوته عندما صرخ، رحمك الله يا أبا عدي.
ساقونا للسيارة وطمّشوا أعيننا حتى لا نرى إلى أين الوجهة ووضعوا لنا السيرومات وضمدوا جراحنا، مشت بنا السيارة حوالي ربع ساعة ثم توقفت وفتحوا باب السيارة وأنزلونا إلى التحقيق ووضعونا في المنفردات
وكل يوم يخرجونا إلى التحقيق وأثناء التحقيق كانوا يضربونا بعصى كهربائية ويضعوا لي المقص وعليه قطعة شاش في الجرح ويضعطوه، ومن شدة الألم يغمى علي، وكانوا يعاملون أحمد بنفس الطريقة.
بقينا خمسة عشر يوماً في التحقيق على هذا الحال من الرعب والضرب والشتائم، انتهى التحقيق وبقينا في هذا المعتقل حوالي ثلاثة أشهر ونصف، ثم أخذونا إلى دمشق إلى منطقة السيدة زينب حيث بقينا حوالي الأسبوعين
ثم إلى فرع الامن العسكري 228 فرع أمن المنطقة في كفرسوسة، وهنا اجتمعت مع أحمد في السجن بعد أن افترقنا أثناء التحقيق والتعذيب.
بقينا في هذا السجن من 1/5/2014 الى 1/11/2014
ومن ثم نقلونا إلى الفرع 248
مرض أحمد في هذا الفرع واشتد مرضه ، فقد عقله من شدة الصراخ وأنين المعتقلين الذي كان يحيط بنا ومن قلة الطعام والماء .. كنت أقول له: أحمد لازم تكون أقوى من هيك بدنا نطلع نكمل مشوارنا يلي بلشنا فيه، شد حيلك منشان النساء يلي كنا عم نسمع أصواتها.
قال لي: تعبت كتير وبعد فترة لم يعد يعرفني بعد أن اشتد مرضه أكثر فأكثر ولم يعد قادر على أكل الطعام وصرت أطعمه بيدي لكن لا جدوى.
أيام قليلة كانت تفصلني عن فراقه. استشهد أحمد ومات قلبي معه.
بعد فترة قصيرة فتح السجان الباب وصاح لي وقال لي اخرج، أعطاني ملابسي وكنت قد بقيت فترة طويلة بدونها ولم أرتديها منذ شهور.
أخرجوني من الفرع بطريقة مخيفة، وأدخلوني الى أحد المكاتب وكان فيه ثلاثة ضباط وأخذوا يقولون لي: الوطن غالي الوطن شامخ الوطن عزيز ولا يوجد أحد لا يغلط . أنت غلطت ولازم ترجع لرشدك.
قال لي أحدهم رح نطالعك تخدم الوطن بس على شرط ما بتهرب وما بترجع لعند المسلحين.
وكان ذلك حيث اقتادوني إلى الشرطة العسكرية في القابون بدمشق، ومن ثم إلى البالوني ثم الشرطة العسكرية في حمص ومنها إلى النبك، ثم إلى منطقة الدريج مركز تدريب القوات الخاصة السورية.
أخضعوني لدورة مدتها شهرين ومن ثم أرسلوني إلى إحدى الجبهات في مدينة تدمر.
بقيت في الجيش حوالي خمسة أشهر، ثم حصلت على إجازة بطريقة غير شرعية بعد عناء طويل، نزلت فيها إلى حمص إلى مكان طفولتي، إلى جبهاتها وحاراتها القديمة، وتواصلت مع أحد الأخوة وقلت له بأن إجازتي مدتها يومين، لازم بهاليومين أخرج من هنا بأي طريقة وكان ذلك حتى وصلت إلى الشمال السوري.
و برغم كل ما تعرضت له من قهر واعتقال وجوع وحصار ومعاناة، لم يمنعني ذلك أن أكمل طريقي في الثورة ومع الشباب الذين كنت أعرفهم من كتيبتي ومدينتي وثورتي.
 
 
 
راوي القصة والتفاصيل الجديدة، هو الشاب المجاهد عبد الوهاب (أبو المجد الأنصاري)
أحد عناصر كتيبة الأنصار المشاركة بشكل رئيسي في المعركة حينها.
 

 

 

 

تعليق