وتعد تدمر من أهم المواقع الأثرية في العالم نظراً لتنوع مشاهدها وكثرتها، وتعدد آثارها الظاهرة فوق الأرض، والمدفونة تحت ركام السنين.. ولكن آثار هذه المدينة تعرض للسلب والنهب والاستباحة، وبشكل خاص منذ أن حكم حافظ الأسد سورية في بداية السبعينات من القرن العشرين، وظلت منذ ذلك الوقت تستباح بشكل كبير، وأدى ذلك إلى فقد معظم المقتنيات الأثرية التي كانت موجودة حتى عهد قريب.
لا نغالي لو قلنا إن سورية خاصة وبلاد الشام عامة تتربع على بحر من الآثار التي تعود إلى عصور قديمة متعددة، والتي توثق تاريخ المنطقة بدءاً من العصر الحجري وحتى العصر الحديث.. فسورية كانت مقصد الإنسان القديم الباحث عن الماء والطعام.. وعبر آلاف السنين شاد القرى والمدن، وأحدث أنظمة حياة إنسانية متطورة، وأقام الحضارات المتعددة وأبدع في كثير من المجالات، ومنها اختراعه لأول أبجدية في العالم.. وبنى ذلك الإنسان السوري القديم الممالك العظيمة كمملكة ” ماري ” في الشمال الشرقي على نهر الفرات، ومملكة ” أوغاريت ” على ساحل اللاذقية، ومملكة ” تدمر” في وسط البادية..
ولكي نبين تفاصيل جريمة نهب الآثار في تدمر، نترك ابن مدينة تدمر القاضي سالم التدمري ليتحدث عن الكيفية التي كانت تجري فيها عملية النهب، حيث ذكر أن السرقة الممنهجة بدأت في الثمانينات على يد رفعت الأسد شقيق حافظ الذي حكم سورية بالحديد والنار ثلاثين عاماً، حيث كلّف عناصر ” سرايا الدفاع ” سيئة الذكر، بالتنقيب عن الآثار، ليبيعها لاحقاً في الأسواق الأوروبية..
وأكد القاضي أن رفعت سرق أهمَّ التماثيل، والكثير من الكنوز التدمرية التي عثر عليها الضباط والعناصر المكلفين بالبحث عن الآثار هناك، وكانت طريقتهم في البحث همجية إلى أبعد الحدود، حيث حطموا وأضروا بالكثير من الآثار، لاعتمادهم على الآليات الثقيلة في الحفر.. ورغم ذلك فإنهم نقلوا بعشرات الشاحنات آثاراً تُقدّر بمئات ملايين الدولارات، وكانوا يقومون بذلك بالتنسيق مع مديرية آثار تدمر وقيادات الفروع الأمنية فيها..
وكما يقول القاضي.. بعد أن حكم بشار الأسد سورية منذ مطلع القرن الحالي، تولّت شقيقته بشرى وزوجها اللواء آصف شوكت عملية التنقيب عن آثار المدينة وسرقتها، ولاحقاً كلفت العميد ” صبرا خازم ” مدير فرع الأمن العسكري في البادية، للإشراف على عمليات التنقيب بنفسه.. ولكنه، كما يذكر القاضي، أن خازم كان يخفي عن بشرى وزوجها القطع الباهظة الثمن، ويبيعها لحسابه الخاص، ومنذ بداية الثورة السورية، بدأ يعمل عمل لحسابه الخاص في عملية نهب آثار تدمر، فسرق كل ما له قيمة من آثار المدينة، مثل معبد ” أرطبان “، وهو أحد أهم المواقع الأثرية في المدينة حيث أفرغه من جميع محتوياته.. وقد قدّر القاضي أن عدد القطع الأثرية التي سرقها صبرا خازم وبشرى وزوجها بسبعة آلاف وخمسمئة قطعة أثرية..
ومع تحول الثورة السورية إلى التسلح، وانتشار السلاح بين المدنيين، شهدت المدينة انفلاتاً أمنياً وفوضى كبيرة، وقام كثير من ” شبيحة المدينة ” بالتنقيب العشوائي عن ما تبقى من آثار فيها..
ويذكر أحد النشطاء أن عدداً كبيراً من الموالين للنظام وشبيحة جبلة والقرداحة شاركوا في سرقة آثار تدمر، حيث كانوا يحضرون إلى المدينة مزودين بخرائط تدل على مواقعها، وكانوا يستخدمون البلدوزرات للتنقيب عنها بمعرفة جيش النظام وقواته الأمنية في المدينة..
أما معظم الآثار المسروقة فأكد أحد خبراء الآثار أنه جرى تهريبها إلى لبنان وتركيا، وأن بعض آثار تدمر شوهدت معروضة للبيع في بيروت عبر عدد من السماسرة..
وأضاف الخبير أنه لم يتبق من آثار تدمر العظيمة سوى تلك القطع الأثرية المسجلة دولياً، والتي لا يمكن بيعها، وقد قام النظام بنقلها إلى مدينتي اللاذقية وطرطوس، وذكر أن هناك عدداً من الشاحنات نقلت آثاراً باتجاه لبنان وبعضها غادر باتجاه العراق، مع اقتراب تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة على مدينة تدمر..
وطالب القاضي التدمري المجتمع الدولي بملاحقة آثار المدينة، ومنع بيعها لتجار الآثار وإعادتها إلى مكانها الأصلي، كما طلب من اليونسكو رصد الآثار التي تم تهريبها إلى لبنان والعراق وإيران وأوروبا، معتبراً أنها من حق سوريا، ويجب أن تبقى في متاحفها الصلية..
من جانبها نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً عن نهب التحف الأثرية من سوريا، وبيعها في بريطانيا ودول أوروبية أخرى، وذكرت أن تحفاً وقطعاً أثرية مختلفة موجودة في أسواق لندن..
وهكذا بدأ آل الأسد بنهب آثار تدمر، واستمروا في نهبها عشرات السنين، وشكّل ذلك جريمة كبرى بحق الثقافة الأثرية الإنسانية، أضيفت إلى جرائمه التي يرتكبها بحق الشعب والوطن، والتي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً من قبل.
بقلم الكاتب: عبد الرحمن عمار