
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف حدث وتم ” تحرير” تدمر وإعادتها إلى حضن الأسد.!؟.
بالعودة إلى أحداث الصراع بين الطرفين، لاسيما في منطقة تدمر، يدرك حتى أصحاب العقول البسيطة أن سلطة الأسد وتنظيم الدولة، ليسا إلا وجهين لعملة واحدة، فالطرفان يهدفان إلى تدمير الوطن والشعب معاً، ونظرة سريعة لمجرى الأحداث منذ ظهور تنظيم الدولة، وحتى الآن تؤكد ذلك.
ولو حصرنا حديثنا في الصراع على تدمر، لأدركنا أن ما جرى ويجري هناك منذ أكثر من سنتين، لم يكن إلا مسرحية فاضحة ومفضوحة، القصد منها تدمير هذه المدينة التاريخية الأثرية العريقة، وتقتيل سكانها أو تشريدهم في أصقاع الأرض.
في البداية كان الصراع بين الطرفين على حقول النفط والغاز المجاورة لمدينة تدمر، وحين ينجح تنظيم الدولة في السيطرة على أحد الحقول، تسارع سلطة الأسد إلى القيام بـ “عملية التبادل الاقتصادي”، تأخذ النفط أو الغاز من تنظيم الدولة، وتعطيه ما هو بحاجة إليه من العملة الصعبة، وفي الوقت نفسه تظل البواريد والمدافع شغّالة بين الطرفين.!!.
وفيما بعد اشتهى تنظيم الدولة، وبالتوافق الضمني مع سلطة الأسد، أن يسيطر على تدمر المدينة، فكان ذلك في أيار 2015، وترافق بتدمير فظيع لمعالم المدينة وأحيائها، ولا بأس في ذلك، ما دامت المنافع متبادلة بين الطرفين، فالتنظيم يحاول أن ينبش ما تبقى من الآثار ويبيعها في السوق السوداء، بعد أن شبع أعوان الأسد نبشاً وبيعاً من تلك الأثار.
أما الصروح الأثرية الكبيرة التي لا يمكن نقلها وبيعها، كمعبد “بل” و”قوس النصر” وواجهة المسرح الروماني وغيرها، فتلك أصنام الكافرين، ولابد من تدميرها، وإعلاء كلمة الله العليا.!!. وهذا ما فعله تنظيم داعش..
ولا يُخفى أن منفعة الأسد من وراء تسليم تدمر للتنظيم هي المتاجرة بهذه القضية والتأكيد على أن خطر الإرهاب الإسلامي سوف يمتد وينتشر، وربما سيصل إلى مخادع الدول الكبرى ما لم تقم بمساعدة الأسد والأخذ بيده وإبقائه جالساً إلى الأبد على عرش سورية الأسد.!!.
وحين جاء الدب الأبيض ليحارب الإرهاب الإسلامي، وبمباركة الكنيسة الموسكوفية، لم يتوجه إلى تنظيم الدولة مباشرة، بل هدفه المدن التي تغص بالعمران والإنسان، وراح يمعن قتلاً وتدميراً فيها، فكانت جميع ضحاياه من المدنيين، نساء وأطفالاً وشيوخاً، ومن العمران، بيوتاً ومستشفيات ومخابز ومرافق عامة وسيارات إسعاف وشاحنات إغاثة. ولكنه لم يستطع أن يجني من وراء ذلك أي نصر عسكري مأمول. وأخيراً توجه إلى تدمر في آذار 2016، وجرت هناك ملحمة كاذبة أدت إلى طرد تنظيم الدولة من تدمر.
واحتفالاً بهذا النصر المؤزر، وبأوامر من الدب الأبرص، جاءت الفرقة الموسيقية التي تمثل “عظمة” القياصرة الروس، وبدأت تعزف نشيد النصر، وهي تجلس على أنقاض ما شيدته زنوبيا ملكة تدمر من عمران يصعب وصفه، وتعجز حضارة القرن العشرين عن الإتيان بمثله أو حتى تقليده. وليت الجاهلين يعلمون أن من شيّد تلك الصروح العمرانية، هم عقول هندسية عربية عاشت في زمن كان فيه الروس مجرد مخلوقات همجية، هي والبهائم سواء.
وربما تخيل المتخيلون أن تدمر صارت ولاية روسية، ولن يقترب تنظيم الدولة منها، ولو حتى في الأحلام، لكن الذي حدث أن العلاقة بين التنظيم وسلطة الأسد ومعها روسيا وإيران، ظلت كعلاقة القط والفأر “توم وجيري”، والطرفان يتبادلان الأدوار؛ فتنظيم الدولة حين كان يتقمص شخصية “توم”، يقوم الأسد وشركاه بتقمص شخصية “جيري”، وهكذا دواليك بالتناوب.
وبعد أن تم تدمير حلب الشرقية وإخراج أهلها، أرادت روسيا أن تخفف من “وقع الصدمة” على الشعب السوري، فلعبت على الحبلين، وأعطت تنظيم الدولة بطاقة مرور لاستعادة تدمر إلى حضنها الدافئ.!!.
وهكذا حصل. ففي كانون الأول من العام نفسه 2016 استعاد التنظيم السيطرة على تدمر، واغتنم الكثير من الأسلحة الروسية الخفيفة والثقيلة التي خلفتها قوات القيصر العظيم بعد هروبها السريع المذهل.!!.. وهكذا ارتفع شأن “أبطال التنظيم” في عيون العشاق والمعجبين والمريدين.!!.
وفي خضم الصراع الكلامي في جنيف4، بشّر أبو شهرزاد، كما أسلفنا، بعودة تدمر إلى حضن الأسد، وقد جاءت هذه العودة بفرمان روسي، فوزير الدفاع سيرغي شويغو، أبلغ بوتين باستعادة السيطرة على تدمر، دون أن يبدي مقاتلو التنظيم أية مقاومة أو شراسة، بل كان الأمر أشبه بالانسحاب الأنيق.
فكيف حدث ذلك.!؟. هذا علمه عند من ترك تدمر، وعند من عاد إليها.