عبد الباسط سيدا: مصير سورية يُقرَّر في غياب السوريين

مظاهرات السوريين

يُقال إن خبيرًا روسيًا من خبراء النفط في عهد السوفييت، ممن كانوا يعملون في حقل رميلان النفطي في سورية، فاجأ المحيطين به في يوم من الأيام قائلًا: “حينما كنتُ في موسكو، لم أكن أؤمن بوجود الله، أما الآن فقد أصبحت مؤمنًا به، متيقّنًا من وجوده”.

وعند سؤاله عن السبب، قال: “حينما أرى كل هذه الفوضى واللامبالاة، وسوء إدارة عملية استخراج النفط، وتسيّب المسؤولين والعمال، ومع ذلك يُستخرَج النفط ويُصدّر؛ أقول بيني وبين نفسي: لا بدّ من وجود الله الذي يساعد هؤلاء، وإلا كيف لنا أن نفسّر ما يحدث”؟

ما ذكّرني بهذه القصة، التي كان يتداولها الناس في منطقة الجزيرة السورية، في سبعينيات القرن المنصرم، هو واقع المعارضة السورية “الرسمية”، إذا صح التعبير. وما نعنيه بذلك تلك المعارضة التي تعترف بها الدول، وتتعامل معها. وهي من جانبها تشترك في قسم من الاجتماعات والجهود التي تتناول الموضوع السوري.

يُشار في هذا المجال إلى الائتلاف وهيئة المفاوضات بصورة أساسية، هذا إلى جانب الجهود الفردية والجمعية الشللية التي تبذل هنا وهناك من جانب بعضهم في منظمات المجتمع المدني، وبعض الحلقات الدراسية والورشات التي تُعقد في الأماكن المختلفة.

حالة فوضى عارمة، وعدم تحديد للمسؤولية، وغياب كامل للمساءلة والمحاسبة. ومع ذلك نسمع من حين إلى آخر عن مواقف تعلن، وتوافقات تحصل، الأمر الذي يؤكد وجود إرادةٍ ما، هي التي تُسيّر الأمور، وتدفع بها نحو وجهة تتناغم مع حساباتها الآنية والمستقبلية. ولكن الإرادة هنا سياسية دولية، وليست سبحانية إلهية. وما حصل مؤخرًا، بخصوص الاتفاق التركي – الروسي حول إدلب، خير مثال في هذا المجال.

فهيئة المفاوضات وُجدت أصلًا لتكون جسمًا فنيًا، مهمتها إجراء المفاوضات مع النظام عبر الأمم المتحدة، وضمن مسار جنيف تحديدًا، وذلك من أجل الوصول إلى حلٍ واقعي مقبول لمعالجة الوضع السوري. على أن تكون هناك مرجعية سياسية لهذه الهيئة، تتمثّل في القيادة السياسية التي من المفروض أنها هي صاحبة القرار الحاسم في نهاية المطاف.

لكنّ الذي حصل هو أن الهيئة المعنية، منذ أيام صيغتها الأولى، تحركت وكأنها باتت القيادة السياسية الأولى، وانطلقت في العلاقات الدبلوماسية، وحتى الميدانية مع الفصائل على الأرض، والمجالس المحلية، الأمر الذي فتح المجال أمام كثير من الفوضى والتذمّر والتنافس. وتجسّدت حصيلة كل ذلك في ظهور الهيئة في صيغتها الثانية التي كانت بمثابة انقلاب أبيض على الهيئة الأولى، وذلك بجهود دولية وإقليمية كانت فاعلة في الصياغتين.

واستمرت الحال على هذا المنوال، بل ازدادت مستويات التخبّط مع انضمام “المنصات” الهلامية التي استمدت “مشروعيتها” من الدول لا من السوريين.

أمّا حال الائتلاف فلم تكن أفضل من حال الهيئة، كما نعلم جميعًا ونأسف، ونشعر بالمرارة لذلك؛ فالائتلاف لم يتبن رسميًا مسار أستانا، غير أنه شارك فيه، وتبنّى خلاصاته، ولو عن طريق أفراد يشغلون مراكز قيادية فيه. ولم يُشارك في عملية عفرين، إلا أن موقفه مما جرى، ويجري هناك، أثار الكثير من التساؤلات والانتقادات، وأضرّ كثيرًا بالمشروع الوطني السوري الذي من المفروض أن يكون بالجميع وللجميع. والأمر ذاته بالنسبة إلى لقاء سوتشي ومخرجاته.

في يومنا الراهن، هناك حديث قويّ حول توافق دولي – إقليمي، بشأن سورية. توافق محوره العمل من أجل صياغة دستور جديد، يحدّد صلاحيات الرئيس، مقابل إعطاء مزيد من الصلاحيات لرئيس الوزراء الذي يتم اختياره، ويُصادق على تعيينه من جانب البرلمان. وهذا فحواه اعتماد نظام هجين: رئاسي – برلماني. وبعد الانتهاء من الدستور، ستجرى الانتخابات بإشراف دولي.

من الواضح أن القوى الإقليمية والدولية، على الرغم من خلافاتها وتعارض مصالحها، هي متوافقة بصورة عامة على توجه كهذا، وما تلمسّناه من تأييد دولي وإقليمي للتوافق الروسي – التركي، حول إدلب، يؤكد ذلك. أما النظام، فهو خارج المعادلة تمامًا على الصعيد الفعلي، وإنما يُستخدم كواجهة من قِبل حلفائه، لإسباغ الشرعية على تحركاتهم وتدخلاتهم. والأمر نفسه بالنسبة إلى المعارضة مع حلفائها.

لكن يبقى الأمرُ الذي لا بدّ من التفكير فيه منذ الآن، وهو أنه في حال إقرار الورقة المقترحة أميركيًا، التي تم تبنيها من قبل المجموعة المصغّرة السباعية، وُسلّمت إلى دي ميستورا، فربما يتم إقرار هذه الورقة في مجلس الأمن، كما حصل بالنسبة إلى تفاهمات فيينا، التي أصبحت العمود الفقري لقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015. وفي حال إقرار الدستور الذي يبدو أن مسودته باتت شبه جاهزة، وتشكلت لجنة الانتخابات، ومن ثم المفوضية التي ستُجري تلك الانتخابات بإشراف دولي، في حال إقرار كل ذلك والتوافق عليه، بعيدًا من إرادة السوريين على الأغلب، وهو الأمر الذي لا يمكن القبول به في جميع الأحوال، فلا بدّ من أخذ جميع الاحتياطات، والتحسب لاحتمالية أمر كهذا، ومواجهة الاستحقاقات التي سيستوجبها.

بالعودة إلى الطابع الفني المهني لهيئة المفاوضات، وغياب المرجعية السياسية التي تحظى بمصداقية وشعبية بين السوريين. نقول: هل ستكون هذه الانتخابات هي الأخرى مجرد خلطة توليفية بإرادة دولية؟ أم أنها ستكون معبرة إلى حدٍ ما عن إرادة السوريين، بعد تجربة ثمانية أعوام من القتل والتدمير والتشريد، وحشد هائل لا يُحصى من القضايا الإنسانية والمشكلات المجتمعية؟

ما نحتاج إليه سوريًا، إذا كانت النية معقودة على استمرارية العمل من أجل نظام مدني ديمقراطي وطني، هدفه مستقبل أفضل لأجيالنا المقبلة من دون أي تمييز أو تهميش، هو تشكيل تجمع وطني في الداخل بجهود الشباب السوري المؤمن بالمشروع الوطني. تجمع يتخطى حدود الطوائف والمذاهب والقوميات والأيديولوجيات، على أن تكون نواته مجموعة صلبة من الكوادر المتفانية لصالح شعبها وبلدها، تتناول جميع القضايا والهواجس بعقل وقلب مفتوحين، بعيدًا من الأحكام المسبقة، ونزعات الحقد والانتقام. مجموعة تعرف شعبها جيدًا، وتدرك مدى عمق الجراح التي كانت، وتسعى للتعامل مع الوضع المعقد بصبر وثبات وتحمّل، ورؤية وطنية بعيدة النظر، تقطع مع كل أشكال التعصب والتشدد.

مع استقرار هذه المجموعة على الصعيد التنظيمي، وتبلور الرؤية السياسية الوطنية الشاملة؛ يكون التحرك المنهجي نحو السوريين في جميع المحافظات، بغية إيجاد قاعدة شعبية واسعة للتجمع المشار إليه، وفق معايير وطنية أخلاقية واضحة. ويمكن لهذا التجمع لاحقًا أن يدعو إلى مؤتمر وطني عام، يعتمد على القوى السورية في الداخل أولًا. أما العلاقة مع السوريين في الخارج، فتكون بشروط الداخل، لأن الطاقات التي ظلت هناك، وحافظت على نفسها في مواجهة استبداد النظام وإرهاب الجماعات المتطرفة، قد امتلكت الكثير الكثير من التجربة والخبرة والحنكة السياسية؛ ما يمكّنها من أداء دور فاعل مطلوب في مرحلة مفصلية من مراحل تاريخ سورية المستقبل.

لقد أكدت التظاهرات التي شهدها الشمال السوري أن هناك طاقات شبابية حية هائلة ما زالت موجودة في الداخل، وهي قادرة على تنظيم نفسها، والتواصل مع شعبها بعقلية ناضجة هادئة، تعرف مواطِن الوجع، وتدرك أبعاد الحساسيات والمشكلات الموجودة، أو تلك التي استحدثت، وتمتلك من الإرادة ما يساعدها في إحداث تغييرات إيجابية لصالح كل السوريين.

 

شبكة جيرون