توطئة:
الزباء أو زنوبيا هي أشهر ملكات تدمر والتي عُرفت بالحكمة والجمال والحيلة والفصاحة وحسن التصرف عند الملمات.
تقع أطلال مدينة تدمُر التاريخية في بادية محافظة حِمص السورية، وقد اكتسبت أهمية تجارية واستراتيجية مهمة عبر تاريخها، إذ ساهم موقعها المتوسط في استفادتها من مرور القوافل التجارية المتنقلة بين أطراف المشرق القديم.
اختلاف الروايات حول زنوبيا:
وهناك جدل كبير حول زنوبيا (الزباء)، وذلك وفقاً لطبيعة وخلفية المصادر التي تحدثت بشأن هذه الشخصية والتي نسجت حولها الكثير من الأساطير، لكن وبشكل عام؛ هناك رواية عربية وأخرى يونانية تتناول هذه الشخصية التاريخية.
زنوبيا في الروايات العربية:
بنيت الرواية العربية على قصة الثأر بين أحد الملوك من العراق وزنوبيا، وهو #جذيمة_الأبرش ملك لشطر من العراق، وكان مهاباً تخافه العرب، وكان قد قتل والد الزباء، وتولت الأخيرة الحُكم من بعد أبيها، ثم استطاعت جمع الرجال والأموال، وابتنت مدينتين متقابلتين على ضفاف نهر الفرات، وجعلت في أسفل كل منهما نفق اعتبرته ملاذاً وملجأً تهرب إليه في حال تعرضها وبلادها لمخاطر الغزو الخارجي.
كان بين الزَّباء وبين جذيمة هدنة، ولعل الأخير قد اغتر بهذه الهدنة واستخفَّ بها، فقال في يوم لمستشاره المُقرب واسمه قصير: إنه يرغب في خطبة الزباء، فتعجب قصير من ذلك، وأخبره أن الزباء قد حرمت نفسها على الرجال وأنها عذراء وأنه لا يأمن عليه من شرها، ثم اقترح أن يذهب شخص لخطبتها.
فذهب الرسول؛ فأبدت الزباء أو زنوبيا الفرح والسرور، وقالت: إنها كانت ممتنعة عن الزواج لأنها تخشى عدم وجود من يستحقها، وأما جذيمة فهو شخص مناسب، ولولا أن الخاطب هو الذي يجب أن يأتي لعروسه، لذهبت بنفسي إليه محملة بالهدايا والجواهر.
الخديعة:
فلما علم جذيمة ذلك ازداد فرحه، وشاور جلساءه، فحذره قصير، وقال له إن بينهما دم، وإنه لا يأمن عليه أن يكون في مكان كل من به يريدون الغدر به، والثأر منه، فسأل جذيمة باقي الجلساء، فوافقوا على رأيه، لأنهم يعلمون رغبته الشديدة في ذلك الأمر، فقال قصير :”أرى القدر يسابق الحذر، ولا يطاع لقصير أمر” ، فأرسلها مثلًا.
وعندما قدم جذيمة في موكبه؛ استقبلته الزباء استقبالًا حافلًا، وقالت للناس رحبوا بملككم، فأعجب جذيمة بذلك، وسأل قصير عن رأيه، فقال له: “إنه ازداد ريبة، ونصحه إذا كان مصممًا على رأيه، أن ينظر إلى الناس من حوله، فإذا وجدهم ملتفون عن يمينه وعن شماله، وهو في الوسط فليحذر، ويسارع بفرسه فارًا، لأنه إذا كان في المنتصف فإن الجنود ستقتله بسهولة”.

وأمرت زنوبيا جنودها بمحاصرته من جهتي اليمين والشمال، ولما دخل جذيمة ورأى الجنود تحاصره، والزباء تنظر له من القَصر، صمّمَ على الاستمرار، ولما رأى قصير أنه لا أمل من نصحه، فرَّ هو هاربًا، وعندما دخل جذيمة القصر، أظهرت له الزباء الود، ولما جلس بجوارها طعنته في مقتل، وأمرت به فدفن.

الثأر لمقتل جذيمة الأبرش:
كان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي، وكانوا كل يوم ينتظرون الأنباء، فلما رأوا فرس جذيمة مقبلة، وهو غير راكب عليها ارتابوا، وأخبرهم قصير بما حدث، وطالب عمرًا بالثأر لجذيمة، فقال له :”أنى هذا، والزباء لديها نفق تلوذ فيه من الأعداء”.
صمم قصير على الأخذ بالثأر، وأجدع أنفه وجلد ظهره، ثم ركب فرسه، وذهب إلى الزباء، فلما رأته استغربت، وقال لها إن عمرًا فعل به ذلك لأنه كان مع جذيمة عند قتله، وإنه سلبه ماله، وعذبه، وأنه أتاها ليستجير بها، فأجارته وهي حذرة منه، وكان قصير يومًا بعد يوم يحاول كسب ثقتها، وأقنعها أنه خبير في التجارة، وكان يجيء لها بأرباح كبيرة، وكان عمرو هو من يدفع هذه الأرباح، لتطمئن أكثر فأكثر لقصير.
ولأن قصيرًا كان حكيمًا وفصيحًا وأديبًا ذا بصيرة ثاقبة، فقد قربته، واستطاع أن يعرف مكان النفق، وفي يوم أخبرته أنها تريد غزو قوم، وتحتاج لبعض الأشياء، فأخبرها أنه سيحضرها لها، وعلم أن الفرصة قد حانت، وقام بإخبار عمرو بأن يخبئ الجند على الجمال.
فلما رأت الجمال تسير ببطء شديد، ارتابت وعلمت أنها ستموت، فحاولت الفرار للنفق، ولكن قصير حال دونها ودون الفرار، ولما رأت عمرًا، مصت السم الذي كان تحت فص خاتمها، وقالت :”بيدي لا بيدك يا عمرو”، فأدركها عمرو وقصير، فضرباها بالسيف، فماتت.
الزباء في الروايات اليونانية والأجنبية:
كانت الزباء وصية على حكم ابنها وهب اللات بعد وفاة زوجها، وقد حافظت على جميع مكاسب زوجها العسكرية والاقتصادية، وهدفت نحو التوسع، واستغلت القوة العسكرية التي تركها لها زوجها، وثقافتها وذكاءها في ذلك، ولأنها كانت تعلم أهمية مصر فقد سعت لضمها إلى تدمر، ومهدت لذلك بأن اقنعت المصريين بأنها خليفة كليوباترا وتشبهت بها، واستغلت انشغال روما بالكثير من الأعمال فأرسلت جيشًا عظيمًا لمصر، واستطاعت أن تفرض سيطرتها هناك.

وقد قامت روما بعقد اتفاق معها أن تبقى في مصر ولكن تحكم تحت اسم روما، وبالفعل صكت النقود وعليها صورة إمبراطور روما، وابنها وهب اللات.
وقامت زنوبيا بتوسعات في آسيا، وبذلك فقد سيطرت على أهم مراكز إمدادات روما العسكرية والاقتصادية، مما جعل الامبراطورية الرومانية تشعر بخطر الزباء، وبعد استقرار الشئون الداخلية بدأت روما تفكر في التخلص منها، فقامت زنوبيا بحركة تحدٍ وأزالت صورة الامبراطور من العملات، وكأنها تعلن صراحة أنها ليست تابعة للامبراطورية الرومانية.

وقد خاضت مع روما مجموعة من المعارك الخاسرة في كل معركة كانت تتقهقر للخلف، وتفقد أحد مكاسبها، إلى أن وصلت لتدمر، وتحصنت بحصنها، وحاولت الاستغاثة بالفُرس الذين لم يحركوا ساكنًا لمساعدتها بسبب سوء الأوضاع الداخلية في بلادهم، فلجأت إلى العرب، الذين رأوا أن مصلحتهم تتطلب الوقوف مع الطرف الأقوى، وفي النهاية؛ استطاعت روما أن تأسر الزباء وتحملها معها وتحدد موضع إقامتها الجبرية، لتظل دوما تحت رقابتها.
الخُلاصة:
إن الذي يقرأ تاريخ الزباء أو زنوبيا في الروايات العربية واليونانية يشعر وكأنه يقرأ تاريخ امرأتين مختلفتين لشدة التباين بين الروايات، فالزباء في الروايات العربية عذراء ابنة ملك، قتلت جذيمة الأبرش، فقتلها عمرو بن عدي بمساعدة قصير؛ وأما الروايات اليونانية؛ فهي أرملة وصية على حكم ابنها، وقامت بتوسعات كبيرة، وقد حُملت أسيرة لروما.

المصادر:
- قصص العرب لإبراهيم شمس الدين، الجزء الثاني ص 498:504، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.
- تاريخ الطبري الجزء الأول، ص 617:626، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.
- 2- تاريخ العرب قبل الإسلام لمحمد سهيل طقوس، ص 389، ص 374:380، دار النفائس، الطبعة الأولى.