د. يحيى العريضي: رسالتنا للعالم.. إنقاذ سوريا ليس منّة

د.يحيى العريضي عميد كلية الإعلام الأسبق

على كوكبنا، وبحدود معرفتي، ما مِن بلد يشبه سوريا الطبيعية. هي دُرَّة ما أُطلِقَ عليه اسم “الحزام الحي” على كوكب الأرض، حيث كل بضعة آلاف عام -ولعوامل مناخية- كانت الحياة تنحسر، أو تتوقف في قسمَي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي، بسبب الجليد؛ ولكن ذلك الحزام بقي واستمر كذاكرة ومعمل ومسكن وحركة وبقاء للنوع البشري، وخاصة في درّته. 

عام 333 قبل الميلاد، عندما دخلها الإسكندر المقدوني، وخيّم بعسكره الجرار في محيط أنطاكية السورية، وشرب من ماء نبع قريب؛ أطلق عبارة شهيرة بأن ماء ذلك النبع يذكّره بحليب أمه عندما كان رضيعاً، وأن سوريا هي وطنه الثاني.

 ومن هنا ربما أتت عبارة شارل فيرلو قارئ النصوص المسمارية الأوغاريتية، ومكتشف “مملكة ماري” على الفرات السوري؛ حيث يقول: “لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأصلي، وسوريا”.

هذا الوطن اخترع الدولاب منذ أكثر من خمسة آلاف عام، فحرّك الحياة؛ فكان التنقل والحركة، والإعمار، والاستقرار؛ ثم أتى اختراع المسنن مستنداً إلى مبدأ الدولاب؛ فرأينا الآلة. 

وتعمّق إنسان هذا المكان في التجريد، فأوجد “الصفر” كقيمة عددية عدمية، ليكون كل ما نشهده اليوم في عالم التقانات. وتطول قائمة إبداعات هذه الدُّرة في الطب والزراعة والموسيقى والقانون واللغة وعلم الاجتماع.

تقاسمه المنتصرون في الحرب العالمية الأولى: الإنكليز وضعوا اليد على جزئه الجنوبي، تهيئة لقيام الكيان الإسرائيلي؛ والفرنسيون وضعوا يدهم عليه، وما خرجوا إلا بعد أن قطّعوا أوصاله: من الموصل إلى كيليكيا وإسكندرون وفلسطين ولبنان والأردن؛ وأبقوا منه ١٨٥ ألف كم مربع؛ حيث تم بتر جولانه عام سبعة وستين من القرن الماضي.

وأخطر ما عملوا به، أنهم منذ خروجهم، جعلوه ينام على انقلاب ليصحو على آخر؛ إلى أن تم توقيع بروتوكول مديد مع مخلوق اسمه حافظ الأسد، أراد تحويل الدُّرة إلى ملكية خاصة أبدية بمباركة منهم.

حتى هذا الذي بقي منه قادرٌ على حمل ثمانين مليون إنسان كي يعيشوا بحبوحة، إن توفّر حكمٌ رشيد. إنه البلد الذي تمنّى “مهاتير محمد” يوماً لبلده “ماليزيا” أن يكون مثله. 

عاصمته أقدم عاصمة مستمرة السكنى في العالم؛ والأولى لترى الكهرباء؛ والظلام اليوم يكللها. “حورانه”، التي ينتقم منها الإجرام اليوم، كانت تطعم إمبراطورية روما قمحاً.

 لا يكمن سر هذا المكان بالأرض فقط بل بإنسانه، الذي كان لا بد من كسره كي تتحلحل العُقَد، وتكون الهيمنة. ومن هنا، كان أمام سلطة الخمسين سنة الماضية مهمة تتمثل بتخريب المنظومة الذهنية والنفسية والأخلاقية لإنسان هذه الجغرافيا. فكان التجهيل والإفقار والإفساد والتصغير والإذلال وبث الكذب والكراهية والمذهبية. فبينما بنى أهل البلاد حياتهم على العيش والتعايش والتحمل والصبر مع هذه السلطة، بَنَتْ هي إستراتيجيتها على المواجهة والإلغاء والعدمية ومبدأ “الكل أو لا شيء”.

ومن هنا رأيناها، عندما انتفض الشعب طلباً لجرعة من أكسجين الحرية والإصلاح، واجههم بالحديد والنار، وأطلق شعارات مثل  “أحكمها أو أدمرها” و”الأسد أو نحرق البلد”.

شعاراته تلك ونهجه التنفيذي راقت لذوي العُقَد، وخاصة للكيان الصهيوني، الذي أراحه نظام الأسد لكل تلك السنوات، فانسجم مع ذلك التوجه بأن يستمر النظام، أو أن تتحول سوريا إلى حالة كسيحة، لا تقوم لها قائمة؛ وكان الدعم والتدخل الخارجي، وكان تلظي الطغمة الحاكمة بـ “المؤامرة الكونية” والاستمرار بالقتل والاعتقال والتشريد والتدمير؛ لتتحول هذه الدُّرة بإنسانها إلى هذه الحالة الكسيحة التي نشهدها.

مَن يساهم في البناء الخيّر للحضارة البشرية لا يكره، ولا يدمّر. وهذا السوري ليس ضد اليهود، بل ضد الاستعمار، وضد من يغتصب حقه وأرضه. هذه المنظومة الاستبدادية الخبيثة حقنته بكره تجاه اليهود، وجعلت شعار “المقاومة والممانعة” مقدساً؛ ليتيقّن السوري لاحقاً بأن ذلك ليس أكثر من كذبة كبيرة.

لقد مرَّ على هذا الإنسان السوري غزاة من التتر والمغول، وتجاوز تلك المحن، وأعاد بلده إلى الحياة؛ لكن هذا النوع من الغزو الداخلي والخارجي تجاوز كل تلك الأنواع في الوحشية والخبث والدهاء والدموية. لقد عانى لأربعين عاماً، وتضاعفت معاناته مرات في العشرة الماضية؛ حيث نال القتل والدمار  والتشريد والاقتلاع من الجانب الحسي فيه، ودمّر الظلم والقهر والإذلال والتخوين والتشويه كيانه وبنيانه النفسي والأخلاقي، وحتى المعرفي، بحيث تختلط كل القيم والمعارف والمسلمات لديه.

لقد ذاق السوريون كل الأصناف السابقة خلال العقود الماضية؛ ولهذا ثاروا؛ ولذلك سينتصرون في رفع الحيف عن أجسادهم وأرواحهم وعقولهم. إنه قانون الطبيعة؛ وقانون الخالق أيضاً.

رغم سواد حالة الإحباط، إلا أن مجرد انتفاضة هذا السوري على عقود من التسلُّط والاستبداد والفساد والإفساد، دليل قاطع على أنه إنسان حيّ، يحتاج لدعم إقليمي ودولي وعربي خاصة. ولا منَّةً أو فضل لأحد بذلك؛ فهو قد سلّف البشرية كثيراً وساهم بحضارتها؛ وأي جهد لإنقاذه هو وفاء لدين له في عنق تلك الحضارة. فالحفاظ عليه وإنقاذه ليس حماية له فقط، بل إنقاذاً لجزء هامّ من الذاكرة الإنسانية الحضارية.