
ترجع تدمر في بداياتها إلى وجود نبع كان يسمح للبشر منذ ما قبل التاريخ بالاستقرار في المنطقة (نبع أفقا). وقد ذكرت الواحة وسكانها في الأرشيف المسماري لماري (بداية الألف الثاني قبل الميلاد)، كما وفي قصص غزو ملوك آشور (في القرن الحادي عشر).
ومع ذلك فلم يكن للموقع أهمية سياسية أو ثقافية كبيرة. ولم تدخل المدينة التاريخ فعلياً إلا مع نمو التجارة والتبادلات بعيدة المدى. وفي الواقع فإن تدمر تقع في منتصف الطريق تقريباً بين البحر المتوسط وبلاد الرافدين.
وكانت السيطرة على هذا الطريق المختصر عبر الصحراء يسمح بتجنب الالتفاف عبر الشمال (طريق أنطاكيا ـ الفرات الذي يتم سلوكه بعد ذلك حتى الخليج). ولكن لكي يمكن استخدام هذا الطريق الأقصر لا بد من السيطرة على دروب الصحراء بحيث لا يظل السائر عبرها مشغولاً بالمخاطر المحتملة والناجمة عن وجود البدو الذين يسكنون هذه الأصقاع.
وقد استُثمر أيضاً طريق آخر عبر الجنوب، من غزة إلى الخليج عبر شبه الجزيرة العربية؛ لكن الأنباط الذين كانوا يسيطرون عليه عانوا من منافسة الطريق البحري (عبر البحر الأحمر ومصر، وحتى الاسكندرية). بالمقابل، لم يكن ثمة منافسة في الصحراء السورية، إلى الشمال قليلاً من الطرق القديمة المستخدمة من قبل الأنباط، لطرق القوافل التدمرية.
ونحن نجهل من الناحية التفصيلية لماذا أوقف التدمريون بشكل واضح نشاطاتهم المربحة في نهاية القرن الثالث للميلاد. ولا شك أن هزيمة زنوبيا أمام الرومان لعبت دورا في تراجع مرحلي لتدمر، لكن التغيرات الجيوسياسية في المنطقة كان لها التأثير الأكبر على عدم عودة التجارة التدمرية إلى سابق ازدهارها.
ومن الواضح أن وصول الساسانيين إلى الحكم في فارس (عام 228)، والحروب المستمرة التي تلت ذلك مع الإمبراطورية الرومانية، لم يسمحا لهذه التجارة بالاستمرار في ظل ظروف مناسبة.
لهذا ربما قام التدمريون (في عهد أذينة ثم زنوبيا)، بسبب العقبات التي كان يضعها الساسانيون أمام التجارة، بمحاربة الإمبراطورية الفارسية، ليحلوا محل القوى الرومانية المهزومة.
إن تغيرات الطرق التجارية تميز في كل الأحوال الحدين الزمنيين لفترة ازدهار تدمر. وفي الواقع كانت التجارة، منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد وحتى الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي، هي التي سمحت للمدينة بالازدهار الاقتصادي والثقافي.
ولا شك أن حضارة تدمر تأثرت بشدة بهذا الدور كطريق عبور بين المتوسط اليوناني ـ الروماني وبلاد الرافدين والعالم الإيراني. ومع ذلك، فقد عرف المجتمع التدمري كيف يحافظ على سماته الخاصة، ويؤلف بين أنماط متعددة من الثقافات.
المصدر:
خالد الأسعد وجان باتيست يون، “كتابات تدمر ـ جولات في مدينة تدمر القديمة من خلال النقوش والكتابات”، 2001، صادر بالفرنسية عن المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى.
الخارطة: طرق الحرير البحرية والبرية، وكان الطريق البري المار بتدمر شريانا أساسيا لتجارة الحرير وغيره من المواد.