تدمر الأثرية .. و ماذا بعد سيطرة تنظيم الدولة عليها

بالميرا مونيتور – تدمر:

 

تدمر مدينة القوافل،واحةٌ نادرةُ المثال قديمة قِدَمَ التاريخ، قامت فيها حضارةٌ فريدة، يرسمُ النحت والزخرفة فيها عالماً ساحراً مستقلاً بذاته، وتتحدثُ أطلالها عن ذلك الازدهار يوم كانت عاصمةً للتجارة العالمية ومركزاً للفعاليات الاقتصادية والرخاء العمراني المُدهش.

 

ويُعتبرُ موقعها كنزاً وطنياً ذا أهميةٍ فائقة كمتحف مفتوح، حيث يكمن السحر في المباني التي تتوشح بالذهب عندما تلامسها أشعة الشمس، فها هنا المعابد، وهناك المسرح والأقواس والشوارع والحمامات والمدافن والأسواق، ومن بين هذه الأوابد ينطلق إشعاع التجلي والخشوع ليلامس شغاف القلوب، فيتجوّل السائح مذهولاً بعظمتها وانسجامها مع الواحة النضرة ورتابة الصحراء، وقد تكون الأعمدة الباقية في المدن التاريخية متشابهة بالضخامة والارتفاع، لكنها تختلف في تدمر بالمضامين والأهداف، فعلى كل عمودٍ تمثالٌ يروي حكايات الكهنة والقادة والتجار، تخليداً لهم وتشجيعاً على العطاء لمن يأتي بعدهم.

لقد صُنّفتْ تدمر كموقع تراث عالمي عام 1980، نظراً لأنه يُعتبر تحفةً فنيةً بارزة ومثالاً مدهشاً على تطور أنماط العمارة، ويقدم مزايا تشكل جاذباً سياحياً يلعب دوراً في تعزيز التطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع. ولقد تمّ ومنذ قرون الاعتراف بالقيمة المميزة لآثارها حيث صَدرتْ الكتب التي أظهرت روعة مبانيها، وساهمت في تطور العمارة الكلاسيكية الجديدة في أوربا.

 

داعش في مسرح تدمريمثل التراث رابطة عامة للبشرية، وهو سجل لذاكرتها، يحفظ خصائصها ويعبّر عن شخصيتها، ولذلك تقع على الجميع مهمة الحفاظ عليه، فحماية الفرد للتراث هي حماية لذاته وهويته، والوفاء للأسلاف لايعني الحفاظ على رمادهم، وإنما نقل جذوة اللهب التي أناروا به طريقنا إلى المستقبل.

إنّ المقاربة بين الحرب والتراث ليست مستحيلة، وقد شهد التاريخ الكثير من الفصول المشابهة في المشرق العربي، لكنّ ما حصل لجهة تدمير وسرقة آثار فلسطين والعراق وسورية، يجعلنا ننظر إلى دور المؤسسات الدولية ذات الصلة بعين الشك، ولاسيما موقفها ضد تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان على سبيل المثال.

وفي إطار الأحداث الجارية، فإننا نشهدُ نظرةً إلى هذا التراث مشوبةً بالجهل والاستخفاف والكراهية، وذلك ما لمسناه في سلب المتاحف والمواقع العراقية وفق فلسفة الأقوى الذي لا يعنيه التراث بشيء.

وبالإضافة إلى ما جرى وما زال يجري بحق الآثار العراقية والسورية عبر تدمير وسرقة عشرات الآلاف من المنحوتات والمخطوطات والنقوش، فإن المواقع الريادية حضارياً كبابل ونينوى والموصل والحضر ودورا أوربّس وبصرى وحلب وحمص وأفاميا والمدن المنسيّة وغيرها الكثير، لم تسلم بدورها من النهب والتدمير.

وبعد، كيف يمكننا النظر إلى ما يحصل، هل وفقاً لمعايير الحضارة الإنسانية أم وفقاً لما سُمّيَ النظام العالمي الجديد، الذي أسفر عن وجه قبيحٍ تجلى بتنظيماتٍ ارتدت لبوس التديّن في وجه ديكتاتورياتٍ آيلة للسقوط.

إن مجمل هذه النماذج تقدم لنا دليلاً على انعدام فاعلية المؤسسات الدولية، بالرغم مما جاء في مبادئ اليونسكو: (بما أن الحروب تبدأ من عقول البشر فإن عقولهم يجب أن تبني مبادئ الدفاع عن السلام).

تدمر الأثرية .. و ماذا بعد سيطرة تنظيم الدولة عليهاوفي ضوء ما نصّ عليه القانون الدولي لحماية الممتلكات الثقافية واحترامها في زمن الحروب، فإننا اليوم نطالب اليونسكو بتفعيل دورها في حماية التراث السوري وفي تدمر خصوصاً، لأنها اليوم تقع بين سندان تنظيم الدولة ومطرقة النظام السوري، في ظلِّ أحداثٍ متسارعة قد لا يُحمدُ عقباها، فإلى جانب الخسائر البشرية المتزايدة نتيجةً للاشتباكات العنيفة والقصف المتبادل، هنالك خسارةٌ جسيمة يتعرض لها الموقع إن لم يقف المجتمع الدولي بشكلٍ حازمٍ وفعالٍ لمنع التدمير المتوقع، فالطرف الأول لا يرى فيه إلا أوثان واجبة التدمير، والثاني يتمترس فيها، وقد جاء في اتفاقية لاهاي لعام 1954:

1-تتعهد جميع الأطراف باحترام الممتلكات الثقافية الكائنة سواء في أراضيها أو أراضي الأطراف الأخرى وذلك بامتناعها عن استعمال هذه الممتلكات أو الوسائل المخصصة لحمايتها أو الأماكن المجاورة لها مباشرة لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف في حالة النزاع المسلح وبامتناعها عن أي عمل عدائي إزاءها.

2-تتعهد جميع الأطراف بتحريم أي سرقة أو نهب أو تبديد للممتلكات الثقافية ووقايتها من هذه الأعمال ووقفها عند اللزوم مهما كانت أساليبها.

إن ما يُتوقع حدوثه من التخريب في تدمر، يجعلنا نطالب المنظمات الدولية ذات الصلة بتحمّل المسؤولية واتخاذ كافة الإجراءات ضد كل من يخرق القوانين الدولية، فهذا التراث أمانة في عنق البشرية، وعليها أن تعي أهميته في صياغة النظرة الإنسانية للمستقبل بعيداً عن فلسفة العالم الجديد بنظامه الغريب ومفرزاته الأغرب.