دائماً وبعد كل سيطرة لتنظيم الدولة “داعش” على مدينة تدمر، تبدأ مسرحيات وأساطير التنظيم (ربما الممنهجة والمدروسة) في إفراغ عصبية وأمراض عناصره وأمرائه بآثار تدمر وحضارتها وتاريخها المسلوب، وتبدأ من جهة أخرى مطالب ونداءات العالم لحماية تلك الآثار من إجرام التنظيم، حيث وخلال السيطرتين السابقتين للتنظيم على المدينة، دمّر التنظيم أهم و أبرز المعالم والأوابد الأثرية في المدينة لا سيما (معبد بل، معبد بعل شمين، قوس النصر، المدافن البرجية، تماثيل ولوحات في متحف تدمر)، وخلال السيطرة الثانية للتنظيم، دمروا (التترابيل، جزء من واجهة المسرح الروماني الأثري).
ليأتي بعدها النظام وحلفائه، لاسيما روسيا، متذرعين بحماية الآثار ومنددين بإرهاب داعش، بعد أن ينسحبوا من المدينة ويسلموها على طبق من ذهب للتنظيم.
فهل هي سياسة مدروسة لتدمير آثار المدينة وتاريخها بشكل ممنهج من قبل التنظيم، أم أنها سيناريوهات متفق عليها بين التنظيم والنظام لتضخيم الواقع الإعلامي للمدينة، بحيث يشحذ النظام الغرب وإعلامه تجاه مكافحة الإرهاب والتطرف وحماية الآثار والتاريخ بعد أن يشارك التنظيم على أفعاله بحقّها.
وماذا عن سكان وأهالي المدينة الذين هجروها تحت وطأة قصف النظام وحلفائه من جهة، وعنجهية وظلم عناصر التنظيم من جهة أخرى، وماذا عن المجتمع الدولي الذي يركّز أيضاً على الآثار والحجر أكثر من البشر، وهل أهل تدمر ليسوا من تلك البلد، أو ليسوا مهتمين بحضارتهم وتاريخهم أكثر من غيرهم كي يستثنوا من اهتمام العالم بهم وبمصيرهم المجهول في مناطق النزوح وبلدان الهجرة على مدار عامين متتاليين.
يتسائل العديد من أهالي مدينة تدمر، عن وضعهم هم كبشر وكإنسانية مسلوبة ومباعة على طاولة وبازارات بلدان النزوح والهجرة، وكيف أن العالم أجمع يرى مدينتهم وكأنها فقط هي تلك الكومة من الحجارة بتشبيه عامّي، وأنهم هم الأحق بالعناية والرعاية وبحث مصيرهم، وإسناد موضوع حماية تاريخهم وحضارتهم لهم في وجه تنظيم مجرم وحاقد على التاريخ، ونظام ذو تاريخ إجرامي وإقصائي حافل، سهّل للتنظيم تنفيذ أفعاله وخزعبلاته تجاه المدينة وسكانها وتاريخها وحضارتها.
كما تسائل البعض الآخر منهم، ما سر تركيز التنظيم على آثار المدينة و رموزها التاريخية، وخصوصاً أثناء سيطرتهم الأخيرة عليها، وكأنهم قد أتوا فقط لتدمير ما تبقى من أوابد أثرية في المدينة وينسحبوا بعدها لتنفيذ أمر آخر للنظام وحلفائه في مكان آخر، حيث لم تتجاوز فترة سيطرتهم الأخيرة على تدمر، سوى ثلاثة أشهر، أقدموا فيها على تدمير التترابيل وواجهة المسرح، بينما وأثناء سيطرتهم السابقة والتي استمرت لأكثر من عام، وعدوا الناس بعدم مساسهم بالآثار ومن ثم وبعد أشهر قليلة من ذلك الوعد بدأوا بحملاتهم الممنهجة لتدمير أوابد المدينة التاريخية.
طبعا وبرغم كل التساؤلات السابقة الهامة وإلحاحها على إتهام التنظيم وإجرامه بحق المدينة وآثارها، ترى الفئة العظمى من أهالي تدمر، بأن إجرام النظام وحلفائه يبدو الأكبر والأخطر تجاه مدينتهم وتراثها، فأغلب سكان المدينة شاهدوا سابقاً كيفية إنهيار جيش النظام الجرار وبدء انسحابه من المدينة بعد مقاومة خجولة أمام زحف التنظيم، بالمقارنة مع قدة ذاك الجيش والتحصينات والعدة والعتاد الذي كان يملكه، بل وبعد أن هرب النظام ومواليه من المدينة، بدأوا حينها بالانتقام من السكان وإتهامهم بأنهم كانوا خلايا نائمة للتنظيم، وأنهم سهلوا للتنظيم السيطرة على المدينة، برغم كل القبضة الأمنية التي كانت تحيط بأهل المدينة من قبل النظام وجيشه.
فبدأت بعدها حملات القصف الممنهج على المدينة، والتي لم ترحم حينها، لا الحجر ولا البشر، مخلّفةً عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى من المدنيين، ونسب دمار هائلة في منازل وممتلكات أهالي المدينة الأبرياء، تلك الحملات الممنهجة لإفناء البشر والحجر، اضطرت أكثر من نصف سكان المدينة للنزوح منها، بعد انعدام كل سبل الحياة فيها.
ولم يسلم من تبقّى في المدينة وبرغم كل تحمله لظروف القصف والمأساة وانعدام الحياة الإنسانية، لم يسلم من تسلّط وعنجهية أمراء وأمنيين وحسبة التنظيم، فبدأ هؤلاء الصبية بدورهم بالتضييق على السكان وإعادة سيناريو القبضة الأمنية للنظام في المدينة، لكن هذه المرة بالسيف والسوط وليس بالبندقية، وكأنها سياسة ممنهجة، وهذا ما ثبت لاحقاً، لتهجير من تبقى من سكان المدينة وإفراغها من أهلها، لتبقى خاوية على عروشها، وليمارس أمراء وصبية التنظيم ما يشاؤون فيها من سلب ونهب وتخريب بالمدينة وآثارها سواء، وهنا وصلت الصورة الذي يريدها النظام وأعوانه بأنه أصبح لابد من البدء بمعركة لاستعادة تدمر، ليظهر النظام بدور المخلّص للحجر وليس البشر، وليبدأ الفصل الثاني من مسرحية مدينة تدمر.
وبالفعل، بدأ النظام معركته بمشاركة حليفته روسيا التي مارست نفس الدور في الدمار الشامل للمدينة، فأحرقوا الشجر ودمروا البشر والحجر، دون أن يلتفت أو يدقق العالم بالدمار الذي حصل بذلك الحجر بعد مئات الغارات الجوية والصواريخ العشوائية التي استهدفت المدينة بمن فيها.
فعاد النظام محتفلاً بانتصاره المزعوم على داعش والإرهاب الذي اصطنعه لأجل ذلك الانتصار، وأعاد معه قسراً لا طوعاً، عشرات العائلات التي كانت تقيم بمناطق سيطرته، ولتبدأ حملاته الإعلامية المكذوبة عن إعادة إعمار المدينة ومؤسساتها، بعد أن دمّرها مع حلفائه (فكيف يبني من يدمّر) ..؟
وبعد أشهر قليلة من سيطرة النظام على المدينة، وبرغم قناعة كل أهل تدمر بأن التنظيم لايزال على مشارفها وقد يحاول البدء بمعركة جديدة للسيطرة عليها في أي وقت، دون أي اكتراث من النظام وحلفائه لذلك، بدأ التنظيم معركته الجديدة بعد أن أعدّ العدة، وتأكد بأن النظام جاهز لتسليمه المدينة مرة أخرى، وتكرر نفس السيناريو السابق، بأن انسحب قادة النظام وعناصره ومسؤوليه بعد انسحاب الخبراء الروس قبلهم بأسبوع، وتثار الشكوك هنا من كون الروس على دراية بعودة التنظيم للمدينة، فترك النظام غير آبه، ترك خلفه عشرات العائلات فريسة بيد التنظيم، ليبدأ أمراء وأمنيين داعش عنجهيتهم المزعومة تجاه الأهالي وليعتقلوا الجميع بما فيهم الأطفال والنساء بذريعة عودتهم للمدينة مع النظامـ ويخضعوهم لدروات شرعية تعسفية استناداً لفتاويهم وأحكامهم، ويباشر النظام بموقع المظلومية تجاههم بعد أن تركهم وهرب.
وهنا وبعد كل ما ذكر، وبعد المآسي التي تعرّض ولا زال يتعرّض لها أهل تدمر في مخيمات النزوح وبلدان الهجرة، تكمن القناعة بأن النظام والتنظيم سواء، ما همّهم ولم يهمّهم يوماً البشر دون الحجر، فهذا يدمّر والأخر يأتي بحجة الحماية والإصلاح بعد أن يعطي أوامر التدمير لمن قبله، ويبقى سكان تدمر ضحية الطرفين المنسية أو المتناساة قصداً في ظل تدمير هذا وإصلاحات ذاك.