كثيراً ما أُسأل : ما الذي جعلنا نصل إلى هنا ؟؟ ولماذا حين نطلع على التاريخ السوري نشك في صحة انتماءنا إلى أولئك السوريين الأوائل ، أصحاب المنعطفات الحضارية و الثقافية الرائعة؟
تكمن اللعنة هنا في الجواب لأنها سوف تلامس و بحدة مكامن العالم الرمزي للكيانات الاجتماعية والدينية والطائفية التي تتألف منها البيئة الاجتماعية السورية الحالية.
بداية سأتهم مفهوم التحيين بشكل عام ، أعني بالتحيين استحضار حين ما وجعله نقطة بداية في مشروعية وجودي واستمراره .
التحيين في التاريخ السوري كان ظاهرة مجتمعية إيجابية لأنه كان العامل الجامع الموحد لأطياف المجتمع كافة ، فمثلاً ، كان تحيين ساعة الخلق و نشوء الكون في أسطورة الاينوما ايليش عاملاً جامعاً و موحداً للهيئة السورية في كل دولة مدينة سواء في الألف الثالثة ق.م أو في الألف الثانية ق.م أيضاً ، لذا كانت احتفالات التحيين وإعادة خلق الكون تأخذ منحى تطهيرياً ، متجدداً ، منبثقاً يتماهى فيه الدنيوي مع القدسي في نسيج وحدة تفعل فعلها التوحيدي اجتماعياً .
تعبر القرون وتدخل في الهيئة الاجتماعية السورية شعوب و جماعات و ثقافات سوف تهضم بعد حين وتصبح سورية بالتفاعل ، هكذا يرسم تاريخ الاجتماع البشري مجراه التطوري.
طيب ، متى أصبح التحيين لعنة سورية بامتياز ؟
أصبح كذلك منذ فقد التماهي الدنيوي – القدسي انسجامه و خطا الفكر الديني المسمى سماوي خطوة استعلائية على الفكر الدنيوي الذي ابتكره بالأساس ، فما إن سيطر الانسان على الطبيعة حتى تمدد القدسي خوفاً على مقدسه عبر الانبياء و ما سمي بالرسالات السماوية.
الأديان السماوية كانت حالة دفاعية عن قدسي متناغم مع الدنيوي ، و التحيين فيها يأخذ عدة مناح تبعاً للثقافة التي استند عليها الدين .
ثم كان الصراع السياسي بظواهره الدينية ، هنا اللعنة الكبرى التي حلت على الهيئة السورية الواحدة ، تذكروا هذا الشرق جيداً ‘ رأس يوحنا المعمدان المقطوع ، رأس الحسين ، مقولة خلفها لنا تاريخ مريض : إني أرى رؤوساً قد أينعت و إني لقاطفها !!
لم نعد نستغرب ما نحن عليه ، ما وصلنا إليه ، الربة اللات كتب مخترعها على تمثال أسدها الحامي لمعبد اللات في تدمر : لا تسفك الدم في المعبد ، و إن كنت أحمقاً لا تقرأ فالمنحوتة زينت بأسد يحتضن أيلاً و بحنان ، هل فهمت ؟؟
ثم تناسلت الأديان مذاهبها ، طوائفها ، المذاهب و الطوائف لها بحث خاص ، ثمة أسباب دينية ، بيئية ، فكرية ، اجتماعية ، إثنية ، سياسية ، اقتصادية لنشوئها
مطلق اعتقاد ديني أو مذهبي أو طائفي يحمل في طياته لحظات تحيين مؤلمة ، تسبب شرخاً في الوحدة المجتمعية السورية لا بل و انقساماً عمودياً و أفقياً ونفسياً .
راقبوا أطياف هذا المجتمع ، أناشيدهم ، أغانيهم .. الخ ، سوف تشهدون أن لحظة التحيين هي كلحظة الانتقام لحدث مضى عليه أكثر من 1300 سنة ، التحيين هنا لم يأخذ طابعاً تطهيرياً جامعاً موحداً بل اختص بكل فئة أو مذهب أو طائفة على حدة و الحاصل هو شرخ مازال يتعمق في المستوى الاجتماعي وكأن رأس القتيل سيعود إن استحضرنا ذكراه الآن .
السوريون إلى أين في هذا الشرق الميت ؟؟ لا أبتعد عن الحقيقة إن قلت أنهم أمسوا تحصيل حاصل ، حتى الهوية السورية فقدت بريقها بعوامل هذا الفيضان الديني والمذهبي و الطائفي
السوري الحقيقي لا ينظر إلى حادثة رأس الحسين لينتقم من قاتليه الذين ماتوا قبل 1300 سنة ، الآن ، والسوري الحقيقي لا يركب ناقة رسول الله ويحارب طواحين المارقين ويقطع رؤوسهم ، و السوري الحقيقي لا ينظر إلى مفخرة سوريا الأموية و التي فتحت المدى الجغرافي التاريخي للاسلام إلى أقصاه ، من خلال رأس الحسين .
السوري الحقيقي من يستطيع تجاوز هذه العباءات الموروثة ، ليرتدي ثياب حمورابي وزنوبيا ونقمد وزمري ليم وشاروكين الأكدي و نبوخذ نصر و جوديا وياريم ليم و غيرهم .
هو فعل خلق و ولادة جديدة لا تنبع مما نشأنا عليه بل ما سنؤول إليه وكل ما سوى ذلك قبض ريح ، هاهم أتخمونا بالعروبة و العرب ، وكنت أميل أكثر لو أن الدعم الايراني لسوريا كان فارسياً فقط دون أن يأخذ طابعاً مذهباً حرصاً على الهيئة الاجتماعية السورية ، و كذلك كل أنواع الدعم للقطب الآخر ذات الشبهة الدينية السلفية .
سوف تتعب سوريا حتى تعيد تنظيف نفسها من المظاهر المتدينة السياسية ، هذا إن استطاعت أن تنظف نفسها، و سوف يلزم سيدنا الوعي أن يحمل الفكر المدني التنويري لإعادة سوريا إلى مجرى التاريخ لتقوم بدورها كونها ضرورة إنسانية و حتى ذلك الوقت .. تطهروا من تدينكم ، مذاهبكم ، طوائفكم ، انتماءاتكم المريضة فلا خوف على أحد من الموت بعد أن حصد الموت ما حصد .