بالميرا مونيتور – براء سراج – معتقل سابق في سجن تدمر السياسي
قصة من أخ تدمري هي من الكوميديا السوداء!
طعامٌ دسمٌ
كأشهى مائدة تراها عيناك، فقد اشتملت على اللذيذ والأطايب من الطعام، ولكنك كلما اقتربت منها ازددت جوعاً… فيدك لن تصل إليها أبداً، إنها الموائد التي طبختها خيالات السجناء وأعدتها ذكريات التدمريين في أحلام نومهم ويقظتهم.. هكذا كانت موائد سجناء تدمر في مسغبة عام 1986 (المسغبة: المجاعة مع التعب).
أما في الحقيقة وبعيداً عن الخيال فقد بدأت إدارة السجن تبعاً للتعليمات الصادرة إليها من القيادة الحكيمة بتنفيذ برنامج جديد ابتكرته عقول ماكرة وقلوب حاقدة سوداء في الأول من أيلول منذ ذلك العام ليطبق على السجناء بكل قسوة .
كنت وقتها في المهجع اثنين في الباحة الأولى وكنا نعد المئة والخمسين أو نزيد .
قبل ذلك اليوم كان الجوع عنواناً دائماً لما يقدم لنا من الطعام، ولكن بعده أصبح العنوان بكل جدارة هو المسغبة. لقد انخفضت مخصصات الفرد البائس منا إلى الربع ليصبح نصيب الرجل في اليوم والليلة نصف رغيف عسكري أعجف في أحسن الأحوال وكذلك ما يرافقه من أنواع الطعام الأخرى … زيتونتان سوداوان مشبعتان بصدئ الحديد لسوء التخزين، أو ربع إلى ثُمن بيضة منزوعة الصفار، أو لحسة من المربى أو …أو.. هذا للإفطار، وأما الغداء والعشاء فكانا مجتمعين عبارة عن عدة معالق من البرغل وحساء العدس المشبع بالحصى الناعم، ربما حسبونا دجاجاً نحتاجه في عملية الهضم أو لتكسير أضراسنا النخرة التي منعت عنها فراشي الأسنان لسنين طويلة، أو مثلها من الأرز غير الناضج والمطهو بالماء مع دسم زنخ منفر الرائحة، وأما المرق فكان أخضراً إن سبحت فيه القليل من أوراق السلق أو أحمراً فتغوص فيه فتات القنبيط… إنه طعام الخريف والشتاء…
ارتفعت نسبة الإصابة بمرض السل الذي اجتمعت له كل أسباب الاستفحال لينال من صدورنا، وكذلك فقر الدم بشتى أنواعه وكان أشدها فتكاً ذلك الذي بنقص الفيتامين ب 12…. لم نعد نقوى على الحركة إلا لواجبات الحياة، فبعد الدخول من التفقد كنا نفترش الأرض تعباً وخوراً من الجوع بانتظار الطعام الذي تزداد جوعاً بعد تناوله بفعل المنعكس الشَرطي، وكم سقط منا ومن غيرنا في الباحة أثناء التفقد إذا طالت مدته عن الدقائق، فلم تعد قلوبنا قادرة على متابعة الضخ بالرغم من قذف الأدرينالين بسبب التوتر، أم أن غددنا كذلك أصابها الجوع فلم تعد تقوى على الإفراز الكافي…. ربما. كان ذلك يثير سخرية وضحك السجانين علينا…. أكلنا ما يؤكل وما لا يؤكل من قشور البيض إلى قشور البرتقال والبطيخ وبذور التفاح، على رسلك لا تذهب بعيداً…. لم تكن هذه الأنواع من الطعام ترسل إلينا إلا لإغاظتنا وتذكيرنا بها حتى لا يفقد سلاح التجوع أثره في أنفسنا كما فعل بأبداننا … فلم يكن نصيبنا نحن المئة و الخمسين سوى بقايا بطيخة أو اثنتين منزوعة القلب، عاثت فيها أيدي قذرة فأحالتها قشرة أو تكاد… وأما البرتقال فواحدة أو أقل للثمانية من هؤلاء الجياع…. كنت أخفي بذور التفاح في جيب بنطالي لأقتات عليها ليلاً… كنا نرى من ثقب الباب كيف يرمى طعامنا في المجاري والبلاليع لتسمين الفئران والجرذان فهي بنظرهم أحق منا به، كما أسمعونا ذلك غير مرة، ونمنع نحن منه مما كان يزيدنا جوعاً وألماً، كنا نصابر أنفسنا بقول الله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع … وبما حملته لنا السيرة النبوية من جوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فيزداد تحملنا ونحتسب أجرنا وكم تذكرنا حصار الشعب…. وكان ابتهالنا بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم إنا نعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع … لم تكن قسوة برد الشتاء في تلك السنة بأقل شدة من الجوع فاجتمعا علينا…. فبعد نوم خمس ساعات من شدة التعب كان الجوع والبرد كفيلان بإيقاظي من نومي، ومما زاد الطين بلة أن تشققت قدماي من جفاف الجلد وضموره بسبب البرد ونقص الغذاء والفيتامينات وكذلك من ساعات القيام الطويلة، 
لقد كانت تلك الشقوق تنبض ألماً مع كل ضربة قلب فتطرد النوم من عيني على أهميته للسجين، فقد تزور أو تزورك أمك في المنام أو تخرج بعيداً عن القضبان لزيارة حبيب أو صديق… كان نصيبي في أحد الأيام قطعة دهن لا يتجاوز حجمها حجم حبة الفول الصغيرة، عندما هممت بقذفها في فمي لأسد بها بعضاً من جوعي قدحت في ذهني فكرة ماذا لو استخدمتها في دهن تشقق قدمي؟
راقت لقدمي الفكرة ولكنها أزعجت معدتي، وحسمت الصراع بينهما لصالح قدمي… وضعتها في الشباك حيث أنام حتى لا تنتن أو تفسد، وصرت أدهن بها قدمي قبل النوم ليخف ألمها وقد نجحت. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فبعد عدة أيام وكنت قد تبرعت بطعامي لأحد المرضى المسلولين ، اشتد غضب معدتي عليَّ فلم تتركني أنام بتقلصاتها القوية وتذكيرها لي ببقايا قطعة الدهن، ليلتها وبعد أن فرغت من دهن قدمي لم أستطع إلا أن ألتهمها التهاماً كأطيب طعام ذقته في حياتي وأنصفت بين معدتي وقدمي.