إن أية قضية وطنية أو اجتماعية أو إنسانية لا بد لها من تلاقح الأفكار والآراء حتى يتوصل المتحاورون إلى قناعة مشتركة..
ولو تناولنا موضوع الفكر القومي العربي على سبيل المثال، وأردنا أن نتحدث عنه أو نقيّمه، فعلينا أن نضعه في سياقه التاريخي، ليكون رأينا فيه منطقياً وعادلاً لا أن نحاكمه من منطلق القناعة الآنية..
منذ أن خرج المؤرخ والفيلسوف الفرنسي ” أرنست رينان ” بنظرية القومية، تأثر بها الكثير من سياسيي العالم ومفكريه، ومنها شعبنا العربي في بداية القرن العشرين..
ودون أن أتعرض لهذه النظرية سلباً أو إيجاباً، فإنني أنتقل إلى الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ففي هذين العقدين تحرر العديد من الدول العربية من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وراح يتطلع الشعب العربي إلى تحقيق آماله في دولة واحدة من ” المحيط إلى الخليج ” تعيد أمجاد الأمة العربية الغابرة، فجاء حزب البعث بأفكاره القومية، ثم تبعه جمال عبد الناصر، وكان أول تطبيق عملي لهذه الأفكار هو الوحدة بين مصر وسورية، وتوّجها الرئيس شكري القوتلي بتنازله غير المسبوق لعبد الناصر ليكون رئيساً لـ “الجمهورية العربية المتحدة”..
ومن وجهة نظري، أرى هذا التوجه والتطبيق لحلم الوحدة العربية لا غبار عليه، ولو استمر في وتيرته الأولى، فلربما نكون الآن في “دولة عربية واحدة”، ولكان الموقف العام في غاية الإيجابية..
وقبل أن أُتّهم بالطوباوية، فإنني أسارع إلى القول: إن عبد لناصر بدلاً من أن يتوجه إلى ترسيخ الجمهورية العربية المتحدة على أسس متينة وسليمة والانطلاق نحو أقطار عربية أخرى لتنضم إلى هذه الدولة الوليدة، راح “حضرته” يرسّخ الدكتاتورية وحكم المخابرات، فنتعنهمما الاستبداد والمستبدين. والاستبداد كما هو معلوم يؤدي بطبعه إلى أخطاء فادحة، فكان انهيار الوحدة أول نتائج الاستبداد، وأردفها بالكارثة الثانية، وأقصد بها هزيمة حزيران عام 1967، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير.!!. وعادت الأمة العربية إلى ” المربع الأول” حسب تعبير سيّئ الذكر خالد عبود الماهر في التطبيل والتزمير للأسد وسلطته الفاسدة..
وبعد أن استولى حزب البعث على السلطة بانقلابه عام 1963 رفع شعاره المدوّي ” أمة عربية واحدة…” ثم انحرف مضمون الشعار، إلى أن وُضع على الرف بعد استيلاء الأسد الأب على الحكم عام 1970 ، وشيئاً فشيئاً تحولت سورية إلى مجرد اسم نكرة لغوية، وللتعريف بهذه “النكرة” أُضيفت إلى الأسد، فصارت “سورية الأسد”.. ثم صار “سيد الوطن” ثم “إلى الأبد.. إلى الأبد يا حافظ الأسد”..
وخلال مرحلة وأد الفكر القومي بدأ ينتشر في الأفق المدّ الإسلاموي القادم عبر المذهب الوهابي المتشدد، وساعد في ذلك التطورُ الإعلامي الهائل، ولاسيما الفضائيات التلفازية ووسائل التواصل الاجتماعي.. وهكذا حتى جاء عام 2011 وقامت الثورة في سورية.
في البداية كان التوجه الثوري عفوياً، يجسّده شعار “واحد.. واحد, الشعب السوري واحد”. ثم فجأة بدأ التحول الشكلي في مسار الثورة. وانطلقت المظاهر الإسلامية “الفلكلورية” في اللباس وسحنة الوجوه.!!. بعد أن تم غسل أدمغة الكثيرين منهم، وانتشرت ظاهرة “العرعرة ، وترافق ذلك مع الدعوة الملحاحة لتطبيق الشريعة بما يتناسب مع الأمزجة المستوردة من بلاد النفط والدولار. كما ترافق مع الإصرار على إلغاء المكونات الاجتماعية الأخرى وقذفها خارج الغلاف الجوي للثورة السورية..
وكان من الطبيعي بعد هذا التحول أن يبدأ الهجوم الكاسح على “القومجية العربية” التي كانت تلفظ أنفاسها منذ حين، وبدأ “الأبناء الثوار” بمحاكمة الآباء برعونة ووقاحة، وحمّلوهم وِزر ما آلت إليه البلاد بصمتهم على حكم الأسد مدة أربعين عاماً..
أمام هذا المد الكاسح المدعوم من الخارج، وحتى من مخابرات الأسد، انهزم الآباء، وعلى رأسهم المثقفون والمفكرون، وخَلَت الساحة ليعمّ فيها الفوضى والعشوائية.. وأية فوضى وعشوائية أفدح من أن يتشكل أكثر من ألف فصيل مقاتل ليحارب الأسد، وكل واحد يدير قفاه للآخر، وأية فداحة أعظم من أن يكون هناك معارضة في الخارج تدعي تمثيل الشعب والثورة، وهي لا علاقة لها لا بالشعب ولا بالثورة.!؟..
وأخيراً أقول بعبارة واحدة: سوف يأتي يوم يدين فيه الأحفاد آباءهم، ويحاكمونهم معنوياً على ما فعلوه، ويرفضون ذلك الفكر المتشدد الذي أدى إلى أسلمة الثورة، ثم إلى دمار الوطن ومحاولة القضاء على الثورة بقصد أو دون قصد، كما أدى إلى استجرار ألف مستعمر ومستعمر حتى بات النصر على سلطة الأسد ومن يعينه على البقاء حلماً من الأحلام..