العدالة والحرية من أجل تنمية بشرية حقيقية

أكد تقرير التنمية البشرية العالمي لعام 2015 أن غالبية البلدان العربية حققت مستوى جيداً من التنمية البشرية قياساً بالبلدان الأخرى بناء على دليل التنمية البشرية الذي يقيس بنود الدخل والصحة والتعليم وهي الأكثر التصاقاً بحياة الناس. وكان تقرير عام 2010 أشار إلى الأمر ذاته عندما أكد أن خمسة بلدان عربية تربعت على عرش إنجازات التنمية البشرية على الصعيد العالمي بين 1970 و2010، وفي مقدمها عُمان وتونس. وقبل انتهاء العام الذي صدر خلاله التقرير بدأت في تونس انتفاضة انصبت مطالبها الأساسية على إصلاحات تتعلق بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية وبنمط الحكم.

نحن إذاً أمام مفارقة أثارت تساؤلات عن مدى دقة المؤشر الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي لا يزال المصدر الأساس لقياس التنمية البشرية في العالم. ودفعت هذه المفارقة الخبراء إلى العمل لتعزيز دقة هذا المؤشر. وتسنى لنا التوصل إلى إمكانية تجويد المؤشر الحالي من خلال قياس بند «الحرية الفردية» الذي يقع في صلب موضوع الحوكمة خصوصاً، وفي صلب موضوع التنمية البشرية عموماً.

حظي مفهوم «الحرية الفردية» بعناية عدد من مؤسسي حقل التنمية البشرية وعلى رأسهم الفيلسوف والمنظّر الاقتصادي الهندي أمارتيا سن. وبلغت أهمية المفهوم عنده حداً جعله يرى في الحرية الغاية الكبرى للتنمية، وتبدّى ذلك في كتابه «التنمية كحرية» الصادر عام 1999 أي بعد سنة من حصوله على جائزة نوبل. وكمعنيين بالتنمية البشرية في المنطقة العربية، عمدنا إلى إجراء بحث يتوخى قياس التنمية البشرية في البلدان العربية بعد تضمين بند الحرية الفردية في مكونات الدليل السابق. وباشرنا قياس البند بمؤشرين، أولهما مؤشر العدالة ممثلاً بسلطة القانون، وثانيهما مؤشر الحرية والمساءلة. وفي ذلك استفدنا من بيانات البنك الدولي الذي يقيس هذين البندين دورياً.

وإذ ظهر أن عدداً قليلاً من البلدان العربية شهد تحسناً في جودة الحكم خلال السنوات القليلة الماضية، تبيّن أن الغالبية في حاجة ماسة إلى إجراء إصلاحات أعمق في الحوكمة. ففي المجموعة الأولى، نجد أن بلداً كتونس حقق طفرة خلال السنوات التي أعقبت حراك 2010 في بندي الحرية والمساءلة. وفي بلدان عربية أخرى جرت محاولات دائبة لترسيخ معادلة الانتقاص من الحرية في مقابل الاستقرار وجعلها جزءاً من العقد الاجتماعي الضمني. وظهر جلياً أن لتجاهل إصلاح الحوكمة تداعيات وخيمة، منها ما شهدته المنطقة أخيراً من زيادة معدلات الفقر المدقع والجوع والركود الاقتصادي وتدهور الوضع الإنساني إذ مثلت تداعيات تجاهل إصلاح نهج الحوكمة أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى حالات استقطاب مجتمعي واحتقان واضطراب أمني ونزاع سادت بلدان في المنطقة بدرجات متفاوتة.

في البلدان ذات الكثافة السكانية العالية والموارد المحدودة يؤدي سوء الأداء الاقتصادي الناجم عن نهج حوكمة رديء إلى ضغوط هائلة، إذ تخفق السياسات في تحقيق ما تعد به من نموٍ لقاء إسكات الأصوات المعارضة وتجنب المساءلة. وعندما تعلو الأصوات المنادية بإصلاح نهج الحوكمة، تُعتمَد لغة القمع لإسكاتها بما يؤدي إلى اتساع الشرخ بين الطبقة الحاكمة والشارع وتعميق الاستقطاب السياسي والاقتصادي تعميقاً ينذر بانهيار دعائم الاستقرار.

ولا يغيّر في ذلك ما ذهب إليه البعض من الاحتجاج بأن ثمة بلداناً تسنى فيها تحقيق نمو مطرد على رغم أن نهج الحوكمة القائم فيها تسلطي وتعتريه أوجه خلل كثيرة، كما حصل في شرق آسيا. ففي مَعرِض دحض هذه الحجة أوضح تقرير «رؤية عربية 2030» الذي أعدته «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (إسكوا) ونُشِر في صيف 2016 أن النمو الاقتصادي المطرد الذي حققته بعض بلدان شرق آسيا حدث في ظروف فريدة عقب الحرب العالمية الثانية. وثمة اختلافات بنيوية وسياساتية جذرية بين تلك البلدان والبلدان العربية تجعل من افتراض إمكان تكرار التجربة افتراضاً غير مبرر.

أولت بلدان شرق آسيا المعنية عناية فائقة بالتحوّل الهيكلي الاقتصادي وبإصلاح نهج الحوكمة في دوائر الجهاز البيروقراطي الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في عجلة الاقتصاد والاستثمار. واعتنت بتحقيق النمو المستدام بدلاً عن التركيز على نمو تستفيد منه النخبة. واهتمت بإصلاح سياسات الحوكمة المؤثرة في بنية الموارد البشرية، ما أتاح لها قاعدة بشرية مؤهلة على مدى زمني شمل أجيالاً وليس جيلاً. وساهمت تلك السياسات والقاعدة البشرية في تنفيذ ذلك التحوّل الهيكلي الطموح الذي شهدنا أمثلة عنه في ماليزيا وكوريا الجنوبية. كل تلك الإصلاحات الحوكمية جرى تجاهلها في البلدان العربية التي اقترن نمط النمو فيها بضعف الإنتاجية والتصنيع والبطالة خصوصاً بين الشباب واتساع رقعة القطاع غير الرسمي والاستيراد المفرط خصوصاً لتلبية رغبات الاستهلاك التفاخري لدى الأغنياء.

خلاصة ما سبق أن حقلاً واسعاً كالتنمية البشرية لا يصح اختزاله في نتائج قياس عددٍ محدود من الظواهر أو البنود، ولا غنى عن قياس الحوكمة إذا أردنا الحصول على صورة أدق للتنمية البشرية. أما الخلاصة الأخرى فهي أن لا غنى عن إصلاح نهج الحوكمة في الدول العربية إذا أردنا تحقيق غايات التنمية وعلى رأسها تأمين الاستقرار وتحسين مستوى المعيشة.

إن إصلاح نهج الحوكمة وصون الحريات العامة والفردية يمثل الخطوة الأولى على طريق تحقيق شروط الخروج من المأزق الذي وقعت فيه المنطقة. ومن أهم هذه الشروط التحول الهيكلي الاقتصادي السلس، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وإذا تعذر ذلك، ستعجز بلدان المنطقة عن إرساء أسس الاستقرار وعن تحقيق نمو مستدام.

 

رئيس قسم التنمية الاقتصادية والفقر في «إسكوا» ومحاضر في الجامعة اللبنانية – الأميركية.