ما تضمره البادية السورية من تقاطعات ومفارقات يفوق المعلن. عاد تنظيم “داعش” ليرسم دوائر الخطر فوق الرمال المتحركة. أقرّت الولايات المتحدة بأولوية التصدي له على حماية حقول النفط. تشعر القوات السورية بأن هناك من يريد استدراجها إلى عمق الصحراء بعيداً من المعركة في إدلب. الميليشيات الإيرانية تقتنص الغموض لإعادة الانتشار وفق خريطة تتناسب مع المعطيات الجديدة. ولا تجد روسيا بديلاً من التمترس وراء سياسة الاحتواء في مواجهة تناقضات المشهد، استعداداً لما يخبئه الصندوق الأميركي من مفاجآت إزاءها.
مكمن وراء مكمن، يثبت تنظيم “داعش” أنه بات لاعباً رئيسياً في رمال البادية وجبالها وأوديتها. التوقيت الذي انتعش فيه نشاط التنظيم يشي بانطلاقته من قراءة سياسية متعلقة بالأوضاع الاقليمية والدولية. تترامى البادية بين سبع محافظات سورية، وتمر بها طرق تجارة وإمداد ذات أهمية استراتيجية، لكن خلايا “داعش” تسعى الى تحويلها جيوب قتل ومعابر موت للقوات السورية وحلفائها. وعند النقطة صفر من الحدود السورية – العراقية، لا تزال أصداء غزوة “كسر الحدود” التي أعلنها في العام 2014 أبو محمد العدناني المتحدث السابق باسم “داعش”، (قتل عام 2016)، تتردد بصوت عالٍ. ويكاد الخرق الذي أصاب اتفاقية سايكس – بيكو التي رسمت الحدود الحالية لدول المنطقة، يتحول جرحاً نازفاً يتغذى عليه الإرهاب.
في تلك البقعة الحدودية الغنية بالنفط، تحتشد مطامع وطموحات، وتُرسم لأجلها خرائط ومخططات، وتتقاطع مصالح بعض الأطراف وتتضارب أخرى. وبين انسحاب أميركي من قواعد عسكرية على الضفة العراقية من الحدود، وتعديل مهام أخواتها على الضفة السورية، وبين طريق بري يمتدّ من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا، تجد المنطقة نفسها بين براثن صراع طويل ومدمر تتناحر فيه أطراف مختلفة لأجل الفوز بجائزة النفوذ على الشريط الحدودي أو على قسم منه. قاعدة التنف الأميركية، القواعد الايرانية في البوكمال، الدوريات الروسية التي تحاول الوصول إلى الطرق المؤدية الى المعابر الحدودية، غارات الطائرات المجهولة التي يعتقد أنها إسرائيلية، تتدخل جميعها في رسم مشهد الصراع الدائر هناك مع إعطائه أبعاداً وامتدادات ذات صلة بملفات إقليمية ودولية كبرى.
انقلبت الأدوار نوعاً ما في الساحة السورية، لم تعد إيران هدفاً معلناً للسياسة الأميركية، قوات العمّ سام ستتفرغ لهدف وحيد هو “داعش” بعد أن تخلت عن مهمة حماية حقول النفط. وأصبح التصدي للنفوذ الروسي في سوريا يتقدم على غيره في تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركية الجديدة. بينما تنتظر تركيا إشارة ودّ من البيت الأبيض قبل أن تعيد الحسابات بشأن علاقاتها بموسكو. صفقة صواريخ “أس 400” كانت الطعم الذي ألقت به أنقرة لاصطياد الرضا الأميركي. لكن الصمام الكردي لا يزال يحول دون فتح قنوات التواصل بين واشنطن وأنقرة.
من الطبيعي وسط هذه المتغيرات جميعاً أن تعيش المنطقة على وقع إرهاصات خطيرة؛ تستشعر مختلف الأطراف بأنها قد تقوض المعادلات القائمة وتمهد الطريق لمعادلات جديدة وخريطة تحالفات مغايرة تماماً، وأنه لا بدّ لهذه الأطراف من الاستعداد لكل ذلك عبر إجراء تغييرات جذرية في أدائها وسلوكها لتكون جاهزة لجميع السيناريوات المحتملة.
إيران وميليشياتها
أرسل “حزب الله” اللبناني تعزيزات إلى مدينة تدمر، وافتتحت ميليشيا “فاطميون” مكتب تجنيد في المدينة، ما يزيد من نفوذها في ريف حمص الشرقي. وأخيراً القوات السورية أفرغت مواقعها وحواجزها في المناطق المحيطة بطريق ديرالزور – تدمر، و ميليشيا “فاطميون” و”حزب الله” العراقي حلتا مكانها في أكثر من 13 موقعاً وحاجزاً. الاستبدال جاء في أعقاب اجتماع عقد في نهاية شهر كانون الثاني (يناير) بين قيادة الميليشيات وضباط سوريين. طالب قياديون من ميليشيا “لواء فاطميون” قوات الجيش السوري بانسحاب حواجز الفرقة الرابعة وميليشيا “الدفاع الوطني” و”الفيلق الخامس” من طريق دير الزور – تدمر، وتسليم الطريق لهم.
روسيا أيضاً لم تترك البادية السورية من دون بصمتها. أنشأت مركز استطلاع في مدينة القريتين في ريف حمص الشرقي، وتقوم بتحضير مركز جديد لقواتها في مدينة تدمر إلى جوار موقع تابع لميليشيات إيرانية. هذا التجاور بين المواقع الروسية والإيرانية شجع البعض على الحديث عن تنافس خفي يدور بين الطرفين. تنافس قد يكون امتزج في السابق برغبة روسية في تنفيذ أجندة دولية تتعلق بإخراج إيران من سوريا بحسب ما ذهبت بعض التحليلات.
لكن المنطقة اليوم أمام صفحة جديدة، وروسيا ليس بمقدورها التماهي مع ما تطلبه بعض الدول نظراً الى التزاماتها المتعلقة بالمشهد السوري الداخلي، فضلاً عن أنها أصبحت هي نفسها موجودة على أهداف السياسة الأميركية، وإيران لم تدخل إلى سوريا لتخرج بأوامر من هذه الدولة أو ضغوط من تلك، ناهيك بشعورها بأن المرحلة القادمة ستصب في مصلحتها. وسط ذلك تحتاج جميع الأطراف إلى شمّاعة لتعلق عليها تحركاتها والتغييرات التي تجريها بانتظار أن تتضح السياسة الأميركية في الإقليم عموماً، وفي سوريا خصوصاً، وحتى ذلك الحين يبدو أن تنظيم “داعش” سيقوم بدور تلك الشماعة مستغلاً ما تفتحه أمامه السياسة الإقليمية والدولية من ثغرات للعودة إلى المشهد بصفة لاعب لا غنى عنه.
المصدر: النهار العربي