تعتبر البادية السورية اليوم نموذجاً مصغراً يعكس ما يجري في سورية عموماً من صراع نفوذ دولي-إقليمي بأدوات محلية؛ والسباق المحموم بين تلك الأطراف للسيطرة على الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه تنظيم الدولة.
ترتكز استراتيجية موسكو في سورية على عدم الصدام المباشر مع واشنطن، وإنما اللعب على هوامش الصراع بين أصحاب المصالح لتحقيق أهدافها بأقل التكاليف، حيث تشترك موسكو وطهران من ناحية في الرغبة بتطويق الوجود الأمريكي في البادية السورية وإحاطته بتواجد عسكري إيراني روسي، ومن ناحية أخرى تنسجم مصالح موسكو مع سعي واشنطن لمنع إيران من الوصول إلى المتوسط عبر العراق وسورية.
زاد التصعيد العسكري في البادية من احتمالية وقوع صدام مباشر بين القوات الأمريكية وقوات النظام والمليشيات الإيرانية المدعومة من موسكو، وهو ما لا يرغب فيه الطرفين الروسي والأمريكي، لذا كان لزاماً عليهما الدخول في تفاهمات تحتوي التداعيات المحتملة في البادية، التفاهمات التي ترجمت على ما يبدو وفق عدة اتفاقات منها المعلن وغير المعلن.
لذلك تعتبر البادية السورية اليوم نموذجاً مصغراً يعكس ما يجري في سورية عموماً من صراع نفوذ دولي-إقليمي بأدوات محلية؛ والسباق المحموم بين تلك الأطراف للسيطرة على الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه تنظيم الدولة.
البادية السورية والفاعلون (أصحاب المصالح)
بادية الشام أو البادية السورية، هي منطقة صحراوية تقع في جنوب شرق سورية وشمال شرق الأردن وغرب العراق، يسمى القسم الجنوبي الأوسط منها “الحماد”، أما في الشمال تحدها منطقة تسمى بالهلال الخصيب.
يجتاز بادية الشام من جهتها الجنوبية خط الأنابيب الذي أنشأته شركة أرامكو السعودية لإيصال النفط من رأس تنورة في السعودية عبر الجمهورية العربية السورية إلى ميناء صيدا على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وترتبط البادية السورية برياً بالعراق والأردن بشريط حدودي تصل مسافته إلى أكثر من 240 كم، ولكن لا ترتبط بمعبر رسمي إلا مع العراق، وهو معبر (التنف)، والذي يقع على أوتوستراد دمشق- بغداد. كما أنها تعتبر عقدة للاتصال بين شرق سورية وشمالها الشرقي (دير الزور والرقة) مع وسطها (حمص وحماه) وجنوبها الغربي (القلمون الشرقي والسويداء)، بالإضافة إلى غناها بآبار النفط والغاز ومناجم الفوسفات، وما زاد من الأهمية الاستراتيجية للبادية اليوم هو احتواؤها على عدة جبهات للاشتباك مع تنظيم الدولة “داعش” في عدة محافظات سورية، الأمر الذي جعلها مفتاحاً للسيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية الغنية بالموارد، وبالتالي فإن السيطرة عليها قد تغير موازين القوى لصالح الطرف المسيطر.
وعليه شكلت البادية السورية ساحة للصراع بين ثلاثة أطراف رئيسية من أصحاب المصالح (روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، إيران) المدعومين بالوكلاء المحليين، بالإضافة إلى الأردن وإسرائيل اللتين تمثل الولايات المتحدة مصالحهما. ويمكن تفكيك مصالح كل منهم على الشكل التالي:
1. الولايات المتحدة وحلفاؤها:
تنظر الولايات المتحدة باهتمام شديد إلى البادية، والتي تُشكل نقطة تلتقي فيها جملة من الأهداف الأمريكية في سورية، وهو ما يثبته السلوك الأمريكي الحاسم اتجاه محاولات إيران وروسيا الاقتراب من مناطق نفوذها في البادية، ويمكن إجمال أسباب الاهتمام الأمريكي بالتواجد في البادية السورية بالنقاط التالية:
- حماية أمن الحلفاء (إسرائيل-الأردن)
تسعى الولايات المتحدة من خلال اهتمامها بمناطق (الجنوب الغربي-الجنوب الشرقي) لسورية، والممتدة على مساحة ثلاث محافظات، وهي (القنيطرة-درعا-السويداء) وصولاً إلى معبر التنف على زاوية الحدود السورية العراقية الأردنية؛ إلى حماية حدود كل من الأردن وإسرائيل من محاولات إيران للوصول إليها عبر المليشيات الشيعية، أو من أي تهديد محتمل من قبل التنظيمات المتشددة وعلى رأسها “داعش”، وبخاصة بعد خسائره المتلاحقة في سورية والعراق وإمكانية تسلل عناصره إلى الأردن عبر البادية السورية.
- دعم معاركها ضد الإرهاب
تُشكل البادية السورية عقدة ربط بين مناطق تنظيم الدولة في سورية والعراق، ومنفذاً مهماً لتحرك عناصر التنظيم بين مناطق سيطرته وبخاصة التي يخوض فيها المعارك، لذلك يُعتبر تأمين البادية ضرورة عسكرية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة لدعم عمليات التحالف ضد التنظيم وقطع طرق تحركه وإمداده.
- تطويق النفوذ الإيراني في المنطقة
تعتبر القاعدة العسكرية التي أنشأتها الولايات المتحدة في التنف عقبة أمريكية في وجه تحقيق إيران مشروعها الاستراتيجي في امتلاك طريق بري يصل طهران بلبنان عبر العراق وسورية، إذ يبدو أن واشنطن تسعى عبر توزع قواعدها الجديدة في العراق وسورية إلى تطويق النفوذ الإيراني عبر الحد من سيطرة طهران على المناطق السُنية التي تشكل ممرها البري إلى المتوسط.
- العودة الأمريكية إلى المنطقة
يبدو أن واشنطن التي شكل انسحابها من العراق في العام 2011 تراجعاً عسكرياً لدورها في المنطقة لصالح تمدد النفوذ الإيراني والروسي اليوم في سورية، تسعى للعودة من جديد إلى المنطقة، وبخاصة في عهد الإدارة الجديدة، لذلك يبدو أنها تسعى إلى تكثيف وتثبيت تواجدها العسكري في سورية والعراق وتحديداً في المناطق السُنية (العربية والكردية)، حيث بلغ تعداد ما أنشأته في العراق من قواعد عسكرية 12 قاعدة، 8 قواعد في سورية من ضمنها قاعدة التنف في البادية السورية، والتي تشكل نقطة ارتباط هامة بين مناطق التواجد الأمريكي في العراق وسورية.
2. روسيا وحلفاؤها (اللعب على التناقضات)
ترتكز استراتيجية موسكو في سورية على عدم الصدام المباشر مع واشنطن، وإنما اللعب على هوامش الصراع بين أصحاب المصالح لتحقيق أهدافها بأقل التكاليف، وعلى هذا الأساس استثمرت موسكو الخلاف بين واشنطن وأنقرة في الشمال السوري، وتحاول إعادة الكرة في البادية السورية عبر اللعب على هوامش المشروعين الإيراني والأمريكي في محاولة للوصول إلى تفاهمات تخدم مصالح حليفها (النظام السوري) في السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية، وبخاصة المناطق الغنية بالنفط والغاز.
حيث تشترك موسكو وطهران من ناحية في الرغبة بتطويق الوجود الأمريكي في البادية السورية وإحاطته بتواجد عسكري إيراني روسي، ومن ناحية أخرى تنسجم مصالح موسكو مع سعي واشنطن لمنع إيران من الوصول إلى المتوسط عبر العراق وسورية، وعليه يبدو أن موسكو تهدف من خلال الانخراط في العمليات العسكرية في البادية السورية إلى ما يلي:
- تطويق النفوذ الأمريكي في البادية السورية، وحصره في قاعدة التنف.
- السيطرة على حقول النفط والغاز والفوسفات الواقعة في البادية وبخاصة في حمص وحماه.
- فرض نفسها كشريك في الحرب على الإرهاب رغم المحاولات الأمريكية لعزلها، وتعويم النظام السوري كشريك في تلك الحرب عبر خوض معركة دير الزور.
ثانياً: تقاسم النفوذ (التفاهمات)
سعى كلٌ من الأطراف المتنازعة على النفوذ في البادية السورية إلى تعزيز تواجده العسكري فيها، كما ترجمت المصالح المتضاربة بين الولايات المتحدة وإيران إلى احتكاكات عسكرية أنذرت بإمكانية التصعيد إلى مواجهة مباشرة، خصوصاً بعد أن دعَّم الطرفان تواجدهما في البادية بقواعد عسكرية جديدة، حيث عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري شرق سورية، وذلك لإقفال الطريق أمام قوات النظام والميليشيات الإيرانية الساعية للتقدم إلى زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية من جبهتين: الأولى؛ من منطقة السبع بيار شرق تدمر، و الثانية؛ من الريف الشرقي للسويداء جنوب دمشق، والتي كانت إيران قد عززت وجود ميليشياتها فيها.
وبعد أيام من تعزيز واشنطن معسكر التنف قرب حدود العراق، قامت إيران بتحويل مطار “السين” المجاور والذي يعد ثالث أكبر مطار عسكري في سورية إلى قاعدة لـلحرس الثوري الإيراني.
عمران للدراسات