لا تكاد البادية السوريّة تغيب عن واجهة المشهد حتّى تعود من جديد مسرحاً لـ تطورات عسكريّة حامية، بطلها كل مرّة وفي كل تجدّد للمشهد جنود يُفقَدون وعمليات خاطفة لتنظيم لا يكاد يثور الحديث عن انتهائه، حتى يرجع من جديد من جيوب الصحراء القاحلة، يضرب فيها ويهرُب في سياسة ستغدو آخر ما يمتلكه تنظيم شَغَلَ العالم لسنوات.
الباديَة السوريّة تعقيد جغرافي
في منطقة صحراوية تتوسط أربع محافظات سوريّة وتشكل نقطة التقاء جغرافي معقّد مع الأردن والعراقِ تحديداً، وعلى مساحة تقدّر بثلث مساحة سوريا تتربّع صحراء البادية، التي لطالما كان ضبطها من الصعوبة بمكان طوال أعوام سالفة، فعبر البادية هذه كانت تجري جلّ أعمال التهريب الداخلي بين المدن السوريّة وحتى مع العراق ولبنان، ولم يكن خافياً على جلّ الأهالي قبل الثورة أنّ النظام لم يتمكن من ضبط هذه المنطقة إلا بعد اتفاقات سريّة “في الظاهر” مع المهرّبين وتجار الممنوعات والذين لطالما مدّ النظام يده نحوهم بالشراكة طوال فترة حكمه.
وعبر شبكة علاقات معقّدة عشائرياً ومع تجّار التهريب تمكّن النظام من ضبط المنطقة، في حين كانت مخافر الهجّانة التي تنتشر بطول البادية وعرضها ودوريّات الجمارك عاملاً مساعداً في الضبط خارج سياق الاتفاق المذكور، وعندما نتطرق لتعقيدات منطقة البادية فذلك لأن للجغرافيا قدرةً على شرح المشهد الجاري اليوم وتبسيطه.
فعبر البادية هذه خلال أعوام الثورة أيضاً كسرت حصارات وانتقلت أطراف من منطقة إلى ثانية وأرسلت ذخائر ومؤن وتنقّلت شخصيات قياديّة معروفة وباستحضارٍ بسيط لـ معارك القلمون والغوطة وانتقال “لواء داوود” من إدلب إلى الرقة عام 2017 وكذلك تمكن العشرات من القدوم من درعا وريف دمشق إلى الشمال أيام الحصار حيث يكفي القيام بعمل عسكري بسيط للانتقال ونقل السلاح والولوج عبر البادية باتجاه أي منطقة أخرى، وبعد ظهور داعش وانحساره سيضاف لتعريف البادية أنّها بقعة حياة لتنظيمات مثّلت المدن لها بقعاً غير صالحة للحياة الطويلة.
عودة التنظيم ومناطق الانتشار
في بداية العام الجاري استنفرت قوات النظام وروسيا كامل قواتها لمواجهة خطر محدق مثله عودة جريئة لتنظيم الدولة تعدّت مرحلة العمليات النوعية السريعة، إلى بسط السيطرة على أكثر من خمسين بقعة في البادية السورية
التنظيم سيطر تزامناً مع ذلك على جيوب متفرقة في بادية دير الزور أهمها كباجب وله نشاط واضح في مناطق بادية الرقة الجنوبية الشرقية حتى جبال البشري قرب الحدود الإدارية مع دير الزور، إضافة لنشاط التنظيم في بادية السخنة، وبادية شرق تدمر في ريف حمص الشرقي وتركز نشاطه في بادية جنوب تدمر حتى مشارف جبل القلمون الشرقي وجميعها مع مناطق ريف حماة الشرقي تتصف بالوعورة والصحراوية، ما يجعلها بحسب متابعين بيئة خصبة لـ نشاط التنظيم الذي يغيب ويظهر عبرها فجأة كل حين.
في ريف تدمر يوجد التنظيم في منطقة حمرات أبو الجمر، حتى قصر الحير الشرقي الذي يسيطر عليه أيضاً إضافة إلى سيطرة التنظيم على جبل الضاحك شمال غربي منطقة السخنة، يضاف إلى توسع جديد للتنظيم من شرق الرصافة إلى غرب الشولة في بادية الرقة وحوذة النظام على نقطة التقاء ما يعرف بمثلث الحدود الإدارية حلب الرقة حماة.
عمليات نوعية لتنظيم الدولة والنظام يقر بالخسائر
بحسب وكالة أعماق التابعة لتنظيم الدولة فإنّ عدد الهجمات التي نفّذها التنظيم خلال عام 2021 بلغ 112 هجوماً جلّها تركّزت في البادية السوريّة.
ومن أكبر عمياته، استهداف حافلة تقل مقاتلين تابعين للفرقة الرابعة بقذيفة مضادة للدبابات أسفرت عن مقتل 27 عنصراً – نعتهم صفحات موالية للنظام – على طريق دير الزور – تدمر، إضافة إلى نعي صفحات تابعة للواء القدس الفلسطيني مقتل عشرات العناصر التابعة لها بهجمات متفرقة للتنظيم في بادية حمص.
تمويل التنظيم
يقول مراقبون إنّ تنظيم الدولة نسج مؤخراً مملكة خاصّة له في منطقة البادية السوريّة متّخذاً منها فرصة للتمويل والتذخير، في حين تحدّثت مصادر محليّة عن أنّ التنظيم في البادية يمتلك مقومات ماديّة قادرة على تعويمه متى أراد، فالصحراء بالنسبة له حقلُ نفط أصفر، يخفيه متى شاء ويغذّيه كذلك عبر أرتال النفط والسلاح المارّة تحت ناظري مقاتليه، في حين يرجّح مراقبون أن التنظيم نقل قسما كبيرا من قدراته المالية وعتاده إلى البادية قبيل طرده من المدن، آذار عام 2019، عندما أعلن التحالف إنهاء وجوده شمال شرقي سوريا.