تزايد الحديث عن التغيير الديمغرافي في سوريا في الفترة الأخيرة سواء في المستوى السوري أو الدولي، وذهبت مجموعة كبيرة من النشطاء السوريين في الداخل والخارج للقيام بحملة إعلامية لمنع التهجير القسري الذي يواصله نظام الأسد وحلفائه وخاصة المليشيات الطائفية، وهو نقلة أساسية في التغيير الديمغرافي، هدفه إفراغ مناطق من سكانها، ثم إحلال آخرين مكانهم مع تبديل في هوية السكان، وهذا أساس التغيير الديمغرافي الجاري في سوريا.
عملية التغيير الديمغرافي، ليست جديدة. إذ إن بدايتها، ترافقت مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة، وكانت البداية قيام الإيرانيين بشراء أراض وعقارات واستئجار أخرى بالقرب ما يصفونه بـ “المزارات الشيعية” المعروفة، مثل مقام السيدة زينب جنوب دمشق، أو تلك التي “اكتشفوها” في مناطق متعددة من الأراضي السورية ومنها مقام السيدة رقة بنت الحسين في دمشق القديمة، ومقام أويس القرني في الرقة، ومقام النبي هابيل في ريف دمشق الغربي على طريق دمشق/الزبداني. وعبر بوابة المزارات، أخذت تظهر ملامح شيعية إيرانية عبر ثلاث من المظاهر، أولها توسيع تلك المزارات وإعطائها طابعاً معمارياً ومذهبياً خاصاً، والثاني افتتاح مكاتب وحوزات دينية للشيعية الإيرانية ومن يدور في فلكها، والثالث إقامة وتطوير بنية سكانية وأنشطة اقتصادية، ترتبط بتلك المزارات والقادمين إليها، وكان المثال الأوضح في دمشق، حيث تحولت مدينة السيدة زينب السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية، وصار الوجود الشيعي ظاهراً في محيط مقام السيدة رقية في منطقة العمارة بوسط دمشق القديمة.
ورغم استمرار هذا الخط بشكله الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي وبالتالي السياسي من عملية التغيير الديمغرافي، فقد خلق الصراع المسلح في سوريا خطاً آخراً موازياً من طبيعة أمنية عسكرية، والإشارة تتصل غالباً، بما قام به حزب الله والنظام في الخط الممتد على الحدود السورية – اللبنانية في محافظتي حمص وريف دمشق الغربي. ومنذ بداية الصراع المسلح، عمل حزب الله والنظام على تدمير مدن وقرى هذا الخط بالهجوم على قصير حمص، وتهجير سكانها، واستيطان حزب الله بمسلحيه وعائلاته فيها، وبناء معسكر لتدريب الأطفال على القتال، وضمهم إلى قواته، وجرى اتباع المسار نفسه تقريباً في التعامل مع مدينة يبرود، التي تحولت إلى قاعدة عسكرية وسكنية لحزب الله في القلمون الغربي، فيما كانت ميليشياته بمشاركة قوات النظام، توسع نشاطها غربي دمشق، وتحاصر مدناً وقرى منها الزبداني و مضايا، والتي جرى في العام الماضي ترحيل أغلب سكانها قسرياً، مما مهد فعلياً بإحلال مستوطنين مكانهم باستقدام سكان من بطانة حزب الله ومؤيديه، وهو الأمر المنتظر في داريا، التي تم ترحيل من تبقى من سكانها مؤخراً.
ورغم أن لهذا الخط نفس هدف الخط السابق من تأمين وجود اجتماعي – اقتصادي وثقافي وبالتالي سياسي، فإنه يزيد عليه هدفاً في غاية الأهمية، وهو هدف أمني – عسكري، أساسه سيطرة شيعية مؤيدة لنظام الأسد وإيران على جانبي الحدود السورية – اللبنانية، وتأمين طريق دمشق – شتورا وصولاً إلى بيروت.
وإذا كانت عملية التغيير الديمغرافي، قد أظهرت استهداف المسلمين السنة باعتبارهم أكثرية سكان المدن والقرى، التي كانت موضع تهجير قسري. فإن الأمر لم يقتصر على هؤلاء وحدهم، كما تدلل الوقائع. ففي القصير ويبرود، كما في الزبداني ومضايا وداريا سكان من المسيحيين السوريين، جرى ترحيلهم قسرياً أيضاً في إطار السيطرة الأمنية – العسكرية على المناطق الحساسة، وهذا ما جرى ويجري العمل عليه في قلب العاصمة دمشق، إذ تتواصل ضغوطات على المسيحيين في أحياء القيمرية وباب توما المجاورين لحي الأمين والذي تعيش فيه أغلبية شيعة دمشق لبيع بيوتهم والخروج من المنطقة، كما يجري الاستيلاء على البيوت، التي خرج منها سكانها لسبب أو لآخر، وإحلال آخرين مكانهم في إطار تشييع المنطقة كلها، وقد تعرضت مدينة السويداء، التي تسكنها أغلبية من الدروز السوريين في العامين الأخيرين إلى حملة تغيير سكاني، عبر سعي لشراء بيوت وعقارات فيها بأسعار خيالية بهدف خلق نواة لاستيطان “شيعي” موال لنظام الأسد وايران، لكن انتباه أهالي السويداء، حد من تحقيق هذا الهدف، وتتكرر بعض تفاصيل هذه الظاهرة في العديد من المدن الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق و طرطوس و اللاذقية.
وكما يتنوع السكان الذين يستهدفهم التغيير الديمغرافي، فان الذين يحلون مكانهم متنوعون أيضاً. فإضافة لعنصر المليشيات الطائفية من حزب الله اللبناني إلى حركة النجباء والفاطميون وغيرها من العراقيين والمليشيات الأفغانية والإيرانية وعائلاتهم الذين يحلون مكان السكان المرحلين قسرياً، فإن السلطات السورية فتحت الأبواب لمؤيدها من الجنسيات العربية والأجنبية للحصول على الجنسية السورية، لتمكينهم من شراء الأراضي والعقارات، والانخراط في الأعمال الاستثمارية، الأمر الذي يجعلهم جزء من التغييرات الديمغرافية في سوريا.
إن عملية التغيير الديموغرافي بما تمثله من مسارات أغلبها دموي وله طابع الإكراه، ومن أهدفها دعم نظام الأسد وحليفه الإيراني ومليشياته، تمثل واحدة من أخطر جرائم الصراع في سوريا، بل إنها فتحت الباب واسعاً أمام قوى التطرف وفي مقدمتها داعش لممارسة هذه السياسة وتعميمها في أنحاء مختلفة من البلاد، الأمر الذي جعل من سوريا ميداناَ لتغيير ديمغرافي متسارع، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وتواصل الصراع المسلح لفترة أطول، مما يتطلب تحركاً سوريا ودولياً لوقف عمليات التغيير الديمغرافي ومحاسبة المجرمين القائمين عليه وفق مضامين القانون الدولي والإنساني.
فايز سارة