تحرص نايلة الجهيم (58 عاماً)، وهي من سكان بادية تدمر وسط سوريا، على تعليم بناتها وحفيداتها طرقاً تقليدية لصناعة منتجات حليب المواشي وطرق حفظها، معتبرة إياها “إرث أجداد” يجب الحفاظ عليه من الاندثار.
وتعلمت “الجهيم” صناعة السمن والزبدة والجبنة بطريقة يدوية منذ 40 عاماً من والدتها وجدتها، وباتت تتقن طريقة حفظها وتخزينها.
وعلى الرغم من انتشار المعامل والمعدات الحديثة لإعداد تلك المنتجات والتي توفر الوقت والجهد، إلا أن عائلات من البدو في البادية السورية ما زالت تتمسك بطرق تقليدية تعتقد أنها الأفضل.
وتقع المهمة هذه على عاتق النساء مقابل الرجال الذين عليهم أن يرعوا المواشي في البادية شرق حمص.
أعمال متوارثة
تقول السيدة الخمسينية وهي تنهمك في تعبئة الشكوة (وعاء مصنوع من جلد) بالحليب: “النساء البدويات توارثن عاداتهن وتقاليدهن في إعداد الطعام وتخزينه يدوياً في الأجواء شديدة الحرارة من أمهاتهن جداتهن”.
وتعتقد أن هذه الأعمال ضرورية لحياة العائلات “ولا يمكن الاستغناء عنها”.
فما إن يعود الشبان بالمواشي فترة الظهيرة من الرعي، تتسلم الفتيات الشابات مهمة الحلب، وفرز الحليب بين ما يخصص للاستهلاك يومها وما تعده الأمهات من أجبان وسمن وزبدة بطرق لم تتغير منذ القدم.
وبعد الانتهاء من التحضير، تفرز الكميات بحسب حاجة العائلة للاستهلاك القريب، أو تخزينه ضمن أوعية فخار للشتاء، بينما تحصل العائلة على مورد خلال بيع الباقي لسكان البلدات والمدن القريبة أو التجار في أسواقها.
وساهمت الظروف المناخية والأجواء الصحراوية بالبادية السورية في بقاء الحياة البدوية نسبياً، إذ ينتقل مربو الماشية مع عائلاتهم طلباً للماء والكلأ كما كان أجدادهم، ويعتمدون في عيشهم على منتجات حيوانية تقليدية.
العمل متعة
بينما يبدو تأثر عائلات البدو الرحل أقل تأثراً بأزمات الكهرباء والوقود وغيرها، رغم حاجتها له في السفر لأماكن بعيدة مع تغير الفصول وكذلك لتأمين المياه للقطعان والأعلاف حين لا تتوفر المواشي.
تقول نوار الحمد (44 عاماً)، وهي امرأة تعيش مع عائلتها في البادية السورية، إن الرحّل بطبيعتهم لا يعتمدون على الكهرباء في الأعمال المنزلية وإعداد الخبز والطعام، والأمر نفسه بالنسبة لتحضير منتجات الحليب وحفظها.
أما بخصوص الأعباء الكثيرة للمرأة في البادية، تضيف: “لا غنى عن الأعمال المنزلية كما أننا نستمتع بالقيام بها”.
وخلال سنوات الحرب في سوريا، كانت الأضرار الرئيسة التي طالت البدو ومربي المواشي والإبل في القرى القريبة هي غياب الأمان في البادية السورية التي ما زالت خلايا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” نشطة فيها.
وفي الثامن والعشرين من تموز/ يونيو الماضي، فرض مسلحون مجهولون إتاوات على 12 من رعاة الأغنام في بادية التبني بريف دير الزور والتي تخضع لسيطرة القوات الحكومية وتنتشر فيها فصائل موالية لإيران.
ومطلع العام 2020، هزت جريمة مروعة بادية مدينة السبخة في ريف الرقة راح ضحيتها 23 راعياً من القرى المجاورة للبادية.
منتجات طبيعية
لكن العائلات البدوية تتأثر أيضاً بسنوات الجفاف التي كان آخرها الشتاء الماضي، فالمراعي تنقص والأعلاف إلى غلاء وأسواق بيع المواشي وشرائها راكدة.
وفي هذه الحال، تنخفض كمية المنتجات التي هي بالنهاية مصدر كسب أساسي لبعض البدو، كما أن التدهور المعيشي في المنطقة عموماً يخفّض الطلب على منتجاتهم التي تكون أسعارها أعلى من السمن والزيوت النباتية والأجبان المصنعة في المعامل.
ورغم أن بيع منتجات الحليب إلى جانب الصوف والجلود لم يعد نشطاً وسط ظروف عدم الاستقرار من هجرة وحرب ونزوح، لكن ما زال سكان اعتادوا على تلك المنتجات يفضلونها على الصناعية في الأسواق.
وقال عبد الحميد الغضبان (32 عاماً)، وهو من سكان البادية، إن بعض أصحاب محال المواد الغذائية يقومون بتوصية البدو على الألبان والأجبان والسمن والحليب بشكل شبه يومي لبيعها في محالهم التجارية وتسويق قسم منها لباقي المدن السورية.
وأضاف أن بعض العائلات تتوجه للبدو ورعاتهم للحصول على الحليب والسمن والزبدة مباشرة “لعدم ثقتهم بالتجار وخوفاً من خلط هذه المنتجات بمنتجات صناعية”.
ولا مجال للمقارنة بين الطبيعي والصناعي كما يقول محمد الفلاح (25 عاماً)، وهو صاحب محل مواد غذائية في تدمر، فصلاحية السمن الطبيعي تمتد لسنوات على عكس الصناعي الذي يصلح لفترة معينة رغم احتوائه على مواد حافظة.
ويشير البائع إلى أن ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية التي تضاف لها قيمة الشحن والأرباح وأجور المحال التجارية ومصاريف تأمين الكهرباء، عامل آخر يساهم في الإقبال على منتجات البدو التقليدية.