البادية السورية.. كيف أصبحت مسرحا لتصفية حسابات موسكو وطهران؟

بشكل غير مسبوق، كثف “تنظيم الدولة” هجماته في البادية السورية، خلال يونيو/حزيران 2021، ضد المليشيات الروسية التي أطلقت حملة عسكرية لتنظيف البادية من خلايا التنظيم.

وفشلت المليشيات الروسية في تحقيق أي تقدم يذكر من حملتها المذكورة، لا سيما إبعاد “تنظيم الدولة” عن استهداف الطرق الرئيسة التي تمر بالبادية والرابطة لعدة محافظات.

كما تكبدت تلك المليشيات، خسائر بشرية تجاوزت الـ50 قتيلا، وفق مصادر محلية، منذ 25 يونيو/حزيران 2021، إضافة إلى أسر التنظيم عددا من ضباط وعناصر قوات بشار الأسد المساندة. 

لكن ما كان لافتا هو انسحاب المليشيات الإيرانية تكتيكيا من معارك البادية، وترك بعض النقاط العسكرية التي كانت تتمركز بها وسحبها ونقل بعضها باتجاه محافظتي إدلب وحماة بشكل مفاجئ.

تكتيك مدروس

وأكدت مصادر محلية أن “المليشيات الإيرانية تنصلت من معارك البادية السورية ضد تنظيم الدولة، مستغلة إخفاء نقاط مليشياتها متذرعة بالقصف الأميركي لها مؤخرا”.

وأوضحت المصادر أن المليشيات الإيرانية “ألغت وجودها العلني في مدينة ديرالزور، وخففت من الفعاليات الثقافية والدينية الشيعية، وأوقفت الكثير من الفعاليات، كما أغلقت أغلب المقرات في المدينة”.

وأضافت أن المليشيات الإيرانية “اتبعت تكتيكا عسكريا بحيث أزالت الأعلام من بعض المقرات ورفعت عوضا عن بعضها أعلام النظام السوري، كما أوقفت الدوريات العسكرية”.

ولفتت إلى أنه جرى “رصد توجه قسم كبير من عناصر المليشيات إلى مناطق البساتين والمزارع، حيث يقومون بإخفاء سياراتهم تحت أشجار المزارع، ويتوزعون قي مقرات وبيوت المدنيين”.

وعزت المصادر الانسحاب الإيراني إلى ما سمته “ضربا للخطة الروسية” من حملة البادية السورية والتي “باتت تستنزف الوجود الإيراني الذي يتلقى ضربات جوية على مواقعه بصمت روسي”.

وازدادت هجمات تنظيم الدولة على الطرق الرئيسة التي تخترق البادية وتصل بين محافظات ديرالزور – الرقة – حمص – حماة، متبعا أسلوب الكمائن وزرع الألغام الأرضية على أكثر من محور؛ لتشتيت القوات المهاجمة له.

ونعت صفحات موالية لنظام الأسد منذ منتصف يونيو/حزيران 2021 مقتل العشرات من العناصر، فيما بث تنظيم الدولة في 6 يوليو/تموز 2021 صورا لقتلى قوات الأسد في بادية السخنة بريف حمص.

كما نشرت وكالة “أعماق” التابعة لتنظيم الدولة صورة لما قالت إنها تعود لضابط من قوات الأسد جرى أسره بالكمين نفسه في البادية.

حملة فاشلة

إن حملة روسية لكبح نشاط تنظيم الدولة في البادية السورية “لم تأت أكلها بعد”، رغم الإسناد الجوي للمقاتلات الروسية وزج أكبر تشكيلاتها المليشياوية في المعارك.

وتسعى روسيا لتأمين الطرق الرئيسة المارة من البادية السورية كـدمشق – دير الزور، وحلب – أثريا، وتحجيم خلايا تنظيم الدولة المنتشرة في عمق البادية في نقاط متعددة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2017.

وتمددت خلايا تنظيم الدولة بالبادية السورية، رغم إعلان واشنطن نهاية التنظيم بسوريا في مارس/آذار 2019، إثر عملية عسكرية شنتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي على مناطق وجوده في مدن وبلدات خط الجزيرة في محافظة دير الزور على الضفة اليسرى من نهر الفرات.

ويرى المحلل المختص في الشأن الإيراني معن الشريف، أن البادية السورية باتت “مسرحا لتصفية الحسابات الروسية الإيرانية شرق سوريا التي تبدو المعارك فيها مفتوحة واستنزافية عسكريا واقتصاديا”.

و أرجع الشريف ذلك لعدة أسباب أولها: “طبيعة البادية السورية الوعرة، والتي تعادل نحو نصف مساحة سوريا، وباتت نقطة شبه نهائية لتجمع بقايا تنظيم الدولة في كل بقعة سورية طردوا منها”.

ثانيا، وفق الشريف “تداخلها مع الحدود العراقية الطويلة مع سوريا، بما يمنح التنظيم سهولة في التنقل والحصول على طرق إمداد لتأمن بقائه”.

ثالثا، “اتباع تنظيم الدولة هجمات كر وفر على أرتال قوات الأسد على الطرق الرئيسة، مما يعني صعوبة حسم المعركة في وقت قريب”.

أسباب إستراتيجية

وفي مشهد يدل على أن موسكو ماضية وحدها في معارك البادية السورية، هو نشرها لقوات خاصة تتجول على محاور أساسية بالمعارك، يشرف عليها جنرالات روس وخاصة قرب تدمر بحمص عقدة الوجود الروسي بالبادية.

وتعتمد روسيا في عملياتها العسكرية ضد تنظيم الدولة في البادية على مليشيا “فاغنر” الروسية، و”الفيلق الخامس” و”لواء القدس الفلسطيني” و”الفرقة 25″ بقيادة العميد سهيل الحسن، وتشكيل “أسود الشرقية”.

وبذلك تغيب تشكيلات المليشيات الإيرانية عن معارك البادية السورية، مما يفتح الباب أمام تساؤل عريض حول تخلف طهران عن هذه المهمة.

ومما رصد من تخفيف إيران لنقاط تمركز تعد خطوط دفاع متقدمة في البادية السورية، هو قيام مليشيا الحرس الثوري الإيراني بسحب تشكيلات عسكرية من نقطة “عين علي” جنوب الميادين الإستراتيجية.

صراع الفوسفات

ولا يمكن إغفال وجود صراع دائم بين روسيا وإيران وخاصة شرق سوريا؛ مرده لطبيعة المنطقة الإستراتيجية لكل منهما وتأثير ذلك على توازن القوى على الجغرافية السورية.

لكن ما يشكل نقطة تثير الخلاف بين طهران وموسكو وما زالت تداعياته قائمة ومرتبطة بمعارك البادية، هو امتعاض إيران من منح النظام السوري شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية في مارس/آذار 2018 عقد استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية بحمص.

وتمتلك سوريا ثالث أكبر احتياطي عربي بعد المغرب والجزائر من الفوسفات، حيث تتركز المناجم الأساسية في بادية تدمر ومرتبطة بخط حديدي حتى ميناء طرطوس الذي استأجرته موسكو لمدة 49 عاما.

ويوجد في سوريا 3 مليارات طن من الفوسفات، ويعجز النظام السوري عن تصدير أي طن منه؛ نتيجة المقاطعة الدولية، لذلك ذهب النظام إلى منح شركات روسية وصربية عقودا طويلة الأمد لاستخراجه بحصة 30 بالمئة له و70 بالمئة للشركات المستثمرة.

ولهذا تريد روسيا الحفاظ على الثروات التي باتت بيدها ومنع أي تعكير على حركة نقلها واستخراجها من قبل تنظيم الدولة، فيما طهران ما تزال عينها على مقاسمة موسكو ثروات الفوسفات تحديدا في البادية السورية وإبقاء التهديد على المصالح الروسية.

يأتي ذلك بعد الهيمنة الروسية على استثمارات الطاقة في سوريا على حساب طهران، والتي أخلف النظام السوري وعوده للأخيرة بتسديد بعض ديونه لها عام 2017 عبر إنشاء شركة مشتركة بين الطرفين لاستخراج الفوسفات السوري وتصديره عبر طهران.

وتلهث طهران وراء الفوسفات السوري؛ لمكانته في الأسواق العالمية بوصفه الثاني عالميا بعد المغربي وبمواصفات ممتازة، وكذلك لحاجتها لتأمين النقص الحاد في المواد الأولية التي تعاني منها معامل إنتاج الأسمدة الكيماوية في إيران وأهميته للقطاع الزراعي الإيراني.

تعليق