اعتقال وقمع وقتل واختفاء… كيف صارت رعاية العاملين الطبيين للمعارضين في سوريا جريمة؟

أطباء في سوريا

تعرض العاملون في القطاع الطبي في سوريا منذ نشوء الأزمة وبداية الحرب لضغوط جمة وقمع واعتقالات وصلت إلى حد إخفاء كثيرين منهم قسرياً، والاحتجاز في ظروف صعبة من دون توجيه تهم مباشرة لهم ما أسفر عن وفاة بعضهم تحت التعذيب وترك آخرين لمصير مجهول، وذلك وفق تقرير جديد لمنظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان” اطلع  عليه “النهار العربي”.
وقالت المنظمة ومقرها نيويورك، إن قوات الأمن السورية التي استهدفت المتظاهرين المناهضين للنظام عام 2011، جرّمت الرعاية الطبية للمعارضين، وتركت أسر المحتجزين تحت ضغط نفسي كبير يشمل عدم معرفة مصير أقربائهم المختفين ومنعت الوصول إلى رفات القتلى من أجل دفنهم بطريقة لائقة.
وأضافت المنظمة في تقرير مؤلف من 45 صفحة سينشر الخميس في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، أن نحو 1685 عاملاً طبياً بينهم أطباء احتجزوا بين عامي 2011 و 2012، وقالت إن الذين احتجزوا بسبب تقديم الرعاية الطبية عانوا أكثر من العاملين في مجال الرعاية الصحية المحتجزين بسبب نشاطهم السياسي.
يركز تقرير المنظمة على السنوات الأولى للثورة السورية وما تخللها من عنف مفرط حال دون تمكن مصابي الاحتجاجات من الحصول على رعاية طبية أو الوصول إلى المستشفيات خوفاً من تعرضهم للاستجواب والاحتجاز من قبل عناصر أجهزة الأمن التي كانت تراقب المراكز الطبية.
يستهدف النظام السوري العاملين في مجال الرعاية الصحية ويزعم أن العلاج والرعاية الطبية التي تُقدم لمعارضيه الذين يصنفهم  “إرهابيين”، تشكل دعماً للإرهاب. ووفق تحليلات المنظمة أن النظام اعتبر علاج المتظاهرين جريمة أكثر خطورة من المشاركة في التظاهرات.
أنشأ عاملو القطاع الطبي في شكل طوعي نقاطاً سرية لمواصلة عملهم الإنساني الذي تكفله القوانين الدولية، وكانت في الغالب منازل العاملين الطبيين أنفسهم، ولكن مع توسع الاحتجاجات وزيادة أعداد المصابين تم انشاء نقاط مستقلة صغيرة في منازل كانت تُستأجر خصيصاً للعلاج تتيح للعاملين والمصابين الفرار في حال تعرض المنطقة المحيطة بهم لمداهمات أمنية.
وفي كثير من الأحيان كان مصابو الاحتجاجات يعالجون جرحاهم بأنفسهم بسبب عدم معرفتهم بمكان النقاط الطبية السرية. ومع بدء تشكّل المعارضة المسلحة، بدأ عمال الرعاية الطبية بإنشاء مستشفيات صغيرة بالتعاون مع المنظمات الطبية الدولية، ومع ذلك هاجمت القوات الموالية لبشار الأسد هذه المستشفيات في شكل مباشر بذريعة مكافحة الإرهاب وارتفعت حدة الهجمات منذ بدء الدعم الروسي لنظام الأسد.
من بين مجموعة البيانات التي حللتها المنظمة، اختفى قسراً 75 في المئة من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين احتُجزوا بسبب تقديمهم الرعاية الصحية وتوفى 10 في المئة في الحجز وأُطلق سراح 14 في المئة فقط، وبالمقارنة مع العاملين في مجال الرعاية الصحية المحتجزين بسبب أنشطتهم السياسية اختفى قسرياً 31 في المئة فقط، وتوفى 4 في المئة، وأُطلق سراح الغالبية 63 في المئة.
وإلى اليوم لا تزال المخابرات السورية تحتجز نحو 130 ألف شخص معظمهم في عداد المفقودين وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في باريس. وقال رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة باولو سيرجيو بينيرو بشأن سوريا، “إن مئات الآلاف من السوريين يستيقظون كل صباح قلقين على مصير أحبائهم المفقودين ومكان وجودهم”.
وأضاف باولو في بيان خلال الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر الشهر الماضي: “نسأل بكل احترام ممثل الجمهورية العربية السورية، إلى متى يجب أن ينتظروا حتى تخبرهم حكومتكم عن مصيرهم؟ متى سيتم السماح للمعتقلين الاتصال بأهاليهم؟ هل يسمح بزيارات مراقبين مستقلين أو إطلاق سراح سجناء مرضى أو عجّز أو مسنين؟… هذا الوضع غير معقول”.
على مدار عقد كان استهداف المستشفيات والنقاط الطبية وملاحقة عامليها جزءاً من سياسة النظام السوري لترك معارضيه تحت الضغط من دون رعاية طبية. في عام 2011 عندما اقتحمت القوات الموالية للأسد مدينة درعا بُثت صور على وسائل الإعلام قالت إنها تجهيزات طبية في المسجد العمري لعلاج المتظاهرين وصورت ذلك على أنه جريمة كبرى.
وفي مدينة حمص كان المتظاهرون يحملون الجرحى ويهربون بهم وكأنهم في ميدان معركة وسط تصاعد قصص الموت المروعة من المستشفيات الحكومية. وفي العام الماضي اعتقل أحد الأطباء الموالين للأسد في ألمانيا بعد أدلة تفيد بضلوعة بجرائم ضد المتظاهرين المصابين الذين احتجزوا في مستشفى حمص العسكري، من بينها إجراء نصف عملية جراحية عظمية كبيرة من دون تخدير المريض.
ومن بين الفرق الطبية التي تم إنشاؤها في عام 2011 بهدف تقديم الإسعافات الأولية في مواقع الاحتجاجات وإجراء عمليات طبية طارئة، فريق “نور الحياة” الطبي في مدينة حلب الذي شكله 13 شخصاً بينهم طبيبان وثلاثة أطباء أسنان وصيدلي وخمسة طلاب طب.
اعتقل الدكتور منصور الذي شكل الفريق مرات عدة وتوفى بعد خمسة أشهر من اعتقاله الثالث عام 2012. خلال تلك الفترة، أرسل رسائل عدة إلى عائلته من خلال معتقلين أطلق سراحهم، شرح تعرضه لتعذيب شديد وطلب منهم دفع رشاوى للإفراج عنه. في نهاية المطاف عندما تسلّمت عائلته جثته لم يتمكن شقيقه، طبيب الأسنان، من التعرف إلى الدكتور منصور إلا من خلال سن قام باستبداله، وفق التقرير.
وفي حزيران (يونيو) عام 2012 اعتقل عبدالله وحسن وإبراهيم وهم ثلاثة من أعضاء الفريق عند نقطة أمنية تابعة للمخابرات الجوية، اتصلت عائلة حسن على هاتف ابنها، وبعد محاولات عدة رد عليهم شخص عرّف نفسه أنه مسؤول وأخبرهم أن ابنهم محتجز وقال لهم: “لم تعرفوا كيف تربوا أولادكم، نحن سوف نربيهم”.
بعد ستة أيام تلقت عائلة إبراهيم مكالمة من رقم هاتف ابنهم حيث قام مسؤول بتوجيههم إلى سيارة تحتوي على جثث المحتجزين محترقة. تمكنت عائلة حسن من التعرف إلى جثة الابن لأن جسده لم يكن محترقاً بالكامل… تم التعرف إلى إبراهيم من خلال حذائه وإلى عبدالله من خلال مشبك حزامه. لاحقاً نُشرت مقاطع فيديو على الإنترنت أظهرت حرق المحتجزين مقيدين، وفق التقرير.
يقول مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني، وهي واحدة من أبرز مزودي مؤلفي التقرير بالبيانات: “من المؤسف أن الكوادر الطبية التي بذلت تضحيات كبيرة وعملت في الخطوط والصفوف الأولى لم تأخذ حيّزاً كبيراً من الاهتمام على الصعيد الأممي والدولي أو من قبل وسائل الأعلام”.
وأضاف فضل لـ”النهار العربي”: “لقد تعرضوا لمختلف أنواع الانتهاكات مثل بقية المدنيين حيث شردوا مع ملايين النازحين وقتلوا خلال الهجمات، لكنهم مستهدفون وملاحقون بشكل خاص بسبب عملهم الإنساني، لذا يجب أن تكون قضيتهم والانتهاكات التي تعرضوا ما زالوا يتعرضون لها حاضرة في كل مناسبة، باعتبارهم أحد أهم أعمدة المجتمع”.

تعليق